الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً }

تحدّث الحق سبحانه وتعالى في آية سابقة عن المبذِّرين، وحذّرنا من هذه الصفة، وفي هذه الآية يقيم الحق سبحانه موازنة اقتصادية تحفظ للإنسان سلامة حركته في الحياة. فقوله تعالى: { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ.. } [الإسراء: 29]. واليد عادة تُستخدم في المنْح والعطاء، نقول: لفلان يد عندي، وله عليَّ أيادٍ لا تُعَد، أي: أن نعمه عليَّ كثيرة لأنها عادة تُؤدّي باليد، فقال: لا تجعل يدك التي بها العطاء مَغْلُولَة أي: مربوطة إلى عنقك، وحين تُقيّد اليد إلى العنق لا تستطيع الإنفاق، فهي هنا كناية عن البُخْل والإمساك. وفي المقابل: { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ.. } [الإسراء: 29]. فالنهي هنا عن كل البَسْط، إذن: فيُباح بعض البسْط، وهو الإنفاق في حدود الحاجة والضرورة. وبَسْط اليد كناية عن البَذْل والعطاء، وهكذا يلتقي هذا المعنى بمعنى كل من بذَر ومعنى بذَّر الذي سبق الحديث عنه. فبذّر: أخذ حفنة من الحبِّ، وبَسَط بها يده مرة واحدة، فأحدثتْ كومةً من النبات الذي يأكل بعضه بعضاً، وهذا هو التبذير المنهيّ عنه، أما الآخر صاحب الخبرة في عملية البذْر فيأخذ حفنة الحبِّ، ويقبض عليها بعض الشيء بالقدر الذي يسمح بتفلّت حبات التقاوي واحدة بعد الأخرى، وعلى مسافات متقاربة ومتساوية أي [بَذَرَ]. وهذا هو حدّ الاعتدال المرغوب فيه من الشرع الحكيم، وهو الوسط، وكلا طرفيه مذموم. وقد أتى هذا المعنى أيضاً في قول الحق سبحانه وتعالى:وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [الفرقان: 67]. أي: اعتدال وتوسُّط. إذن: لا تبسط يدك كل البَسْط فتنفق كل ما لديْك، ولكن بعض البَسْط الذي يُبقِى لك سيئاً تدخره، وتتمكن من خلاله أنْ ترتقيَ بحياتك. وقد سبق أنْ أوضحنا الحكمة من هذا الاعتدال في الإنفاق، وقلنا: إن الإنفاق المتوازن يُثري حركة الحياة، ويُسهِم في إنمائها ورُقيّها، على خلاف القَبْض والإمساك، فإنه يُعرقِل حركة الحياة، وينتج عنه عطالة وبطالة وركود في الأسواق وكساد يفسد الحياة، ويعرق حركتها. إذن: لا بُدَّ من الإنفاق لكي تساهم في سَيْر عجلة الحياة، ولا بُد أن يكون الإنفاق معتدلاً حتى تُبقِي على شيء من دَخْلك، تستطيع أن ترتقي به، وترفع من مستواك المادي في دنيا الناس. فالمبذر والمسْرف تجده في مكانه، لا يتقدم في الحياة خطوة واحدة، كيف وهو لا يُبقِي على شيء؟ وبهذا التوجيه الإلهي الحكيم نضمن سلامة الحركة في الحياة، ونُوفِّر الارتقاء الاجتماعي والارتقاء الفردي. ثم تأتي النتيجة الطبيعية للإسراف والتبذير: { فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } [الإسراء: 29]. وسبق أنْ أوضحنا أن وَضْع القعود يدلّ على عدم القدرة على القيام ومواجهة الحياة، وهو وَضْع يناسب مَنْ أسرف حتى لم يَعُدْ لديه شيء.

السابقالتالي
2