الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً }

قوله تعالى: { وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ.. } [الإسراء: 105]. الحق من حقَّ الشيء. أي: ثبت، فالحقّ هو الشيء الثابت الذي لا يطرأ عليه التغيير أبداً، أما الباطل فهو مُتغير مُتلوّن لأنه زَهُوق، والباطل له ألوان متعددة، والحق ليس له إلا لون واحد. لذلك لما ضرب الله لنا مثلاً للحق والباطل، قال سبحانه:أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ } [الرعد: 17]. فإنْ رأيت في عَصْر من العصور خَوَرَاً يصيب أهل الحق، وعُلُواً يحالف أهل الباطل فلا تغتر به، فهو عُلُوّ الزَّبَد الذي يعلو صَفْحة الماء، ولا ينتفع الناس به، وسرعان ما تُلقِى به الريح هنا وهناك لتجلوَ صفحة الماء الناصعة المفيدة، أما الزَّبَد فيذهب جُفَاءً دون فائدة، ويمكث في الأرض الماء الصافي الذي ينتفع الناس به في الزراعة ونحوها. وهكذا الباطل مُتغيِّر مُتقلِّب لا ينتفع به، والحق ثابت لا يتغير لأنه مَظْهرية من مَظْهريات الحق الأعلى سبحانه، وهو سبحانه الحق الأعلى الذي لا تتناوله الأغيار. وقوله: { أَنْزَلْنَاهُ.. } [الإسراء: 105]. ونلاحظ هنا أن ضمير الغائب في { أَنْزَلْنَاهُ } لم يتقدَّم عليه شيء يُوضِّح الضمير ويعود إليه، صحيح أن الضمير أعْرفُ المعارف، لكن لا بُدَّ له من مرجع يرجع إليه. وهنا لم يُسبق الضمير بشيء، كما سُبق بمرجع في قوله تعالى:قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ.. } [الإسراء: 88]. فهنا يعود الضمير في { بِمِثْلِهِ } إلى القرآن الذي سبق ذكره. نقول: إذا لم يسبق ضمير الغائب بشيء يرجع إليه، فلا بُدَّ أن يكون مرجعه مُتعيّناً لا يختلف فيه اثنانِ، كما في قوله تعالى:قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص: 1]. فهو ضمير للغائب لم يسبق بمرجع له لأنه لا يرجع إلا إلى الله تعالى، وهذا أمر لا يُختَلفُ عليه. كذلك في قوله تعالى: { وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ.. } [الإسراء: 105]. أي: القرآن لأنه شيء ثابت مُتعيّن لا يُختَلف عليه. وجاء الفعل أنزل للتعدية، فكأن الحق سبحانه كان كلامه - وهو القرآن - محفوظاً في اللوح المحفوظ، إلى أنْ يأتيَ زمان مباشرة القرآن لمهمته، فأنزله الله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، كما قال تعالى:إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } [القدر: 1]. وهذا هو المراد من قوله { أَنزَلْنَاهُ } ثم نُنزِّله مُنَجَّماً حَسْب الأحداث في ثلاث وعشرين سنة مُدَّة الدعوة كلها، فكلما حدث شيء نزل القسط أو النجم الذي يعالج هذه الحالة.

السابقالتالي
2 3 4