الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلـٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }

لو حرف امتناع لامتناع. أي: امتناع وجود الجواب لامتناع وجود الشرط، كما في قوله تعالى:لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء: 22]. فقد امتنع الفساد لامتناع تعدّد الآلهة. فلو شاء الله لجعلَ العالم كله أمةً واحدة على الحق، لا على الضلال، أمة واحدة في الإيمان والهداية، كما جعل الأجناس الأخرى أمةً واحدة في الانصياع لمرادات الله منها. ذلك لأن كل أجناس الوجود المخلوقة للإنسان قبل أن يفِدَ إلى الحياة مخلوقة بالحق خَلْقاً تسخيرياً، فلا يوجد جنس من الأجناس تأَبَّى عما قصد منه، لا الجماد ولا النبات ولا الحيوان. كل هذه الأكوان تسير سَيْراً سليماً كما أراد الله منها، والعجيب أن يكون الإنسان هو المخلوق الوحيد المختلّ في الكون، ذلك لما له من حرية الاختيار، يفعل أو لا يفعل. لذلك يقول الحق تبارك وتعالى:أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ.. } [الحج: 18]. هكذا تسجد كل هذه المخلوقات لله دون استثناء، إلا في الإنسان فقال تعالى:وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ.. } [الحج: 18]. فلماذا حدث هذا الاختلاف عند الناس؟ لأنهم أصحاب الاختيار، فيستطيع الواحد منهم أن يفعلَ أو لا يفعل، هل هذه المسألة خرجت عن إرادة الله، أم أرادها الله سبحانه وتعالى؟ قالوا بأن الله زاول قدرته المطلقة في خَلْق الأشياء المُسخرة، بحيث لا يخرج شيء عما أريد منه، وكان من الممكن أنْ يأتيَ الإنسان على هذه الصورة من التسخير، لكنه في هذه الحالة لن يزيد شيئاً، ولن يضيف جديداً في الكون، أليستْ الملائكة قائمة على التسخير؟ فالتسخير يُثبِت القدرة لله تعالى، فلا يخرج عن قدرته ولا عن مراده شيء، لكن الاختيار يثبت المحبوبية لله تعالى، وهذا فَرْقٌ يجب أنْ نتدبّره. فمثلاً لو كان عندك عبدان أو خادمان أحدهما سعيد، والآخر مسعود، فأخذت سعيداً وقيَّدته إليك في حبل، في حين تركت مسعوداً حراً طليقاً، وحين أمرت كلاً منهما لَبَّى وأطاع، فأيّ طاعة ستكون أحبّ إليك: طاعة القهر والتسخير، أم الطاعة بالاختيار؟ فكأن الحق تبارك وتعالى خلق الإنسان وكرَّمه بأنْ جعلَه مختاراً في أنْ يطيعَ أو أنْ يعصيَ، فإذا ما أتى طائعاً مختاراً، وهو قادر على المعصية، فقد أثبتَ المحبوبية لربه سبحانه وتعالى. ولا بُدَّ أنْ تتوافرَ للاختيار شروطٌ. أولها العقل، فهو آلة الاختيار، كذلك لا يُكلّف المجنون، فإذا توفّر العقل فلا بُدَّ له من النُّضْج والبلوغ، ويتمّ ذلك حينما يكون الإنسان قادراً على إنجاب مِثْله، وأصبحتْ له ذاتية مولده. وهذه سِمَة اكتمال الذات فهو قبل هذا الاكتمال ناقص التكوين، وليس أَهْلاً للتكليف، فإذا كان عاقلاً ناضجاً بالبلوغ واكتمال الذات، فلا بُدَّ له أن يكون مختاراً غَيْرَ مُكْرهٍ، فإنْ أُكْرِه على الشيء فلن يسأل عنه، فإنِ اختلَّ شَرْط من هذه الثلاثة فلا معنى للاختيار، وبذلك يضمن الحق تبارك وتعالى للإنسان السلامة في الاختيار.

السابقالتالي
2