الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ ٱللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ }

الوفاء: أنْ تفِيَ بما تعاهدتَ عليه، والعهود لا تكون في المفروض عليك، إنما تكون في المباحات، فأنت حُرٌّ أن تلقاني غداً وأنا كذلك، لكن إذا اتفقنا وتعاهدنا على اللقاء غداً في الساعة كذا ومكان كذا فقد تحوَّل الأمر من المباح إلى المفروض، وأصبح كُلٌ مِنَّا ملزماً بأن يفي بعهده لأن كل واحد مِنّا عطَّل مصالحه ورتَّب أموره على هذا اللقاء، فلا يصح أنْ يفيَ أحدنا ويُخلِف الآخر، لأن ذلك يتسبب في عدم تكافؤ الفُرص، ومعلوم أن مصالح العبادِ في الدنيا قائمة على الوفاء بالعهد. وقد ينظر البعض إلى الوفاء بالعهد على أنه مُلْزَمٌ به وحده، أو أنه عِبْءٌ عليه دون غيره، لكنه في الحقيقة عليك وعلى غيرك، فكما طلب منك الوفاء طلبه كذلك من الآخرين، فكلّ تكليف لك لا تنظر إليه هذه النظرة، بل تنظر إليه على أنه لصالحك. فمن أخذ التكليف وأحكام الله من جانبه فقط يتعب، فالحق - تبارك وتعالى - كما كلفك لصالح الناس فقد كلَّف الناس جميعاً لصالحك، فحين نهاك عن السرقة مثلاً إياك أنْ تظنَّ أنه قيّد حريتك أمام الآخرين لأنه سبحانه نهى جميع الناس أن يسرقوا منك، فمَنِ الفائز إذن؟ أنا قيَّدت حريتك بالحكم، وأنت فرْد واحد، ولكني قيّدتُ جميع الخلق من أجلك. كذلك حين أمرك الشرع بغضِّ بصرك على محارم الناس، أمر الناس جميعاً بغضِّ أبصارهم عن محارمك. إذن: لا تأخذ التكليف على أنه عليك، بل هو لك، وفي صالحك أنت. كثيرون من الأغنياء يتبرّمون من الإنفاق، ويضيقون بالبذْل، ومنهم مَنْ يَعُد ذلك مَغْرماً لأنه لا يدري الحكمة من تكليف الأغنياء بمساعدة الفقراء، لا يدري أننا نُؤمِّن له حياته. وها نحن نرى الدنيا دُوَلاً وأغياراً، فكم من غنيٍّ صار فقيراً، وكم من قوي صار ضعيفاً. إذن: فحينما يأخذ منك وأنت غنيّ نُطمئنك: لا تخَفْ إذا ضاقتْ بك الحال، وإذا تبدّل غِنَاك فقراً، فكما أخذنا منك في حال الغنى سنُعطيك في حال الفقر، وهكذا يجب أن تكون نظرتنا إلى الأمور التكليفية. وقوله تعالى: { بِعَهْدِ ٱللَّهِ.. } [النحل: 91]. عهد الله: هو الشيء الذي تعاهد الله عليه، وأول عَهْد لك مع الله تعالى هو الإيمان به، وما دُمْتَ قد آمنتَ بالله فانظر إلى ما طلبه منك وما كلّفك به، وإياك أن تُخِلّ بأمر من أموره لأن الاختلال في أيّ أمر تكليفي من الله يُعَدُّ نَقْصاً في إيمانك لأنك حينما آمنت بالله شهدتَ بما شهد الله به لنفسه سبحانه في قوله تعالى:شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ.. } [آل عمران: 18]. فأوّل مَنْ شهد الله سبحانه لنفسه، وهذه شهادة الذات للذات والملاَئِكة أي: شهادة المشاهدة وَأُولُوا العِلْم أي: بالدليل والحجة.

السابقالتالي
2