الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ }

بعد أن تكلم الحق سبحانه عن أصحاب البيوت الذين يناسبهم الاستقرار، ويجدون مُقوّمات الحياة، وتكلم عن أهل الترحال والتنقُّل وما يناسبهم من بيوت خفيفة يحملونها عند ترحالهم. ثم تحدث هنا عن هؤلاء الذين لا يملكون شيئاً، ولا حتى جلود الأنعام.. ماذا يفعل هؤلاء؟ الحق سبحانه جعل لهم الظل يستظِلّون به من وهج الشمس، وجعل لهم من الكهوف والسراديب في الجبال ما يأوون إليه ويسكنون فيه. وهكذا استوعبتْ الآيات جميع الحالات التي يمكن أن يكون عليها بشر، فقد نثر الحق سبحانه نعمه على الناس، بحيث يأخذ كل واحد منهم ما يناسبه من نعم الله. أما مَنْ لا يملك بيتاً يأويه، وليس عنده من الأنعام ما يتخذ من جلودها بيتاً، فقد جعل الله له الأشجار يستظل بها من حَرِّ الشمس، وجعل له كهوف الجبال تُكِنّه وتأويه. ونلاحظ هنا أن الآية ذكرتْ الظل الذي يقينا حَرَّ الشمس، ولم تذكر مثلاً البرد ذلك لأن القرآن الكريم نزل بجزيرة العرب وهي بلاد حارة، وحاجتها إلى الظل أكثر من حاجتها إلى الدِّفء. وقوله: { ظِلاَلاً.. } [النحل: 81]. الظلال جمع ظِل، وهو الواقي من الشمس ومن إشعاعاتها، وقد يُوصَف الظل بأنه ظِل ظليل.. أي: الظل نفسه مُظلل، وهذا ما نراه في صناعة الخيام مَثلاً، حيث يجعلون لها سقفاً من طبقة واحدة تتلقّى حرارة الشمس، وإنْ حجبت أشعة الشمس فلا تحجب الحرارة، وهنا يلجأون إلى جَعْل السقف من طبقتين بينهما مسافة لتقليل حرارة الشمس. وهنا نقول: إن الظلّ نفسه مُظلّل، وكذلك الحال في ظِل الأشجار حيث يظلّل الورق بعضه بعضاً، فتشعر تحت ظِلّ الأشجار بجوٍّ لطيف بارد حيث يغطيك ظِلٌّ ظليل يحجب عنك ضوء الشمس، ويسمح بمرور الهواء فلا تشعر بالضيق. لذلك فالشاعر يقول في وصف روضة:
وَقَانَا لَفْحَةَ الرمْضَاءِ وَادٍٍ   سَقَاهُ مضاعف الغيْثِ العَمِيمِ
يَصُدُّ الشمسَ أَنَّى وَاجهتْنا   فَيحجُبها وَيأذنُ للنسِيمِ
وهكذا الأشجار تحجب عنا الضارّ، وتسمح بالنافع. وقوله: { أَكْنَاناً.. } [النحل: 81]. جمع كِنْ، وهو الكهف أو المغارة في الجبل تكون سكناً وساتراً لمن يلجأ إليها ويحتمي بها، والكِنّ من الستر لأنها تستر الناس ونحن نقول مثلاً للولد: انكنْ يعني: اسكُنْ وانستر. ويقول تعالى: { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ.. } [النحل: 81]. السرابيل: هي ما يُلبس من الثياب أو الدروع: { تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ.. } [النحل: 81]. أي: تحميكم من الحر.. فقال هنا الحر أيضاً لذلك وجدنا بعض العلماء يحاول أن يجد مخرجاً لهذه الآية فقال: المعنى تقيكم الحر وتقيكم البرد، ففي الآية اكتفاءٌ بالحر عن البرد لأن الشيء إذا جاء يأتي مقابله.. فليس بالضرورة ذِكر الحالتين، فإحداهما تعني الأخرى.

السابقالتالي
2 3 4