الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ }

والعبادة أن يطيع العابد معبوده، وهذه الطاعة تقتضي تنفيذ الأمر واجتناب النهي.. فهل العبادة تنفيذ الأمر واجتناب النهي فقط؟ نقول: لا بل كل حركة في الحياة تُعين على عبادة فهي عبادة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولتوضيح هذه القضية نضرب هذا المثل: إذا أردتَ أن تُؤدّي فرض الله في الصلاة مثلاً، فأنت تحتاج إلى قوة لتؤدي هذه الفريضة، ولن تجد هذه القوة إلا بالطعام والشراب، ولنأخذ أبسط ما يمكن تصوّره من الطعام.. رغيف العيش.. فانظر كم يّدٌ شاركتْ فيه منذ كان حبةَ قمح تلقى في الأرض إلى أنْ أصبح رغيفاً شهياً. إن هؤلاء جميعاً الذين أداروا دولاب هذه العملية يُؤدّون حركة إيجابية في الحياة هي في حَدِّ ذاتها عبادة لأنها أعانتْك على عبادة. أيضاً إذا أردت أنْ تُصلّي، فواجب عليك أنْ تستر عورتك.. انظر إلى هذا القماش الذي لا تتم الصلاة إلا به.. كُلّ مَنْ أسهم في زراعته وصناعته حتى وصل إليك.. جميعهم يؤدون عبادة بحركتهم في صناعة هذا القماش. إذن: كل شيء يُعينك على عبادة الله فهو عبادة، وكل حركة في الكون تؤدي إلى شيء من هذا فهي عبادة. والحق سبحانه وتعالى حينما استدعى المؤمنين لصلاة الجمعة، قال سبحانه:يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ.. } [الجمعة: 9]. لم يأخذهم من فراغ، بل من عمل، ولكن لماذا قال سبحانه: وَذَرُوا البَيْعَ.. لماذا البيع بالذات؟ قالوا: لأن البيع هو غاية كل حركات الحياة، فهو واسطة بين مُنتج ومُسْتهلك.. ولم يَقُل القرآن: اتركوا المصانع أو الحقول، لأن هناك أشياء لا تأتي ثمرتها في ساعتها.. فمَنْ يزرع ينتظر شهوراً ليحصد ما زرع، والصانع ينتظر إلى أن يبيعَ صناعته.. لكن البيع صفقة حاضرة، فهي محلّ الاهتمام.. وكذلك لم يَقُلْ: ذروا الشراء، قالوا: لأن البائع يحب أن يبيعَ، ولكن المشتري قد يشتري وهو كاره.. فأتى القرآن بأدقِّ شيء يمكن أن يربطك بالزمن، وهو البيع. فإذا ما انقضتْ الصلاة أُمرنا بالعودة إلى العمل والسعي في مناكب الأرض:فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ.. } [الجمعة: 10]. فقوله تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ.. } [النحل: 73]. أراد الحق سبحانه أن يتكلم عن الجهة التي يُؤثِرونها على الله.. وهي الأصنام.. فالله سبحانه الذي خلقهم ورزقهم من الطيبات، وجعل لهم من أنفسهم أزواجاً، وجعل لهم بنين وحفدة.. كان يجب أن يعبدوه لنعمته وفَضْله.. فالذي لا يعبد الله لذاته سبحانه يعبده لنعمه وحاجته إليه.

السابقالتالي
2 3