الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ أَفَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ }

لو نظرنا إلى الكون من حولنا لوجدنا أننا لا نتساوى إلا في شيء واحد فقط، هو أننا عبيدٌ لله.. نحن سواسية في هذه فقط، وما دون ذلك فنحن مختلفون فيه، تختلف ألواننا، تختلف أجسامنا.. صورنا.. مواهبنا.. أرزاقنا. والعجيب أن هذا الاختلاف هو عَيْنُ الاتفاق ذلك لأن الاختلاف قد ينشأ عنه الاتفاق، والاتفاق قد ينشأ عنه الاختلاف. مثلاً: إذا دخلتَ أنت وصديقك أحد المطاعم وطلبتما دجاجة.. أنت بطبيعتك تحب صدر الدجاجة وصديقك يحب جزءاً آخر منها.. هذا خلاف.. فساعة أن يأتي الطعام تجد هذا الخلاف هو عين الوفاق حيث تأخذ أنت ما تحب، وهو كذلك.. هذا خلاف أدى إلى وفاق.. فلو فرضنا أن كلانا يحب الصدر مثلاً.. هذا وفاق قد يؤدي إلى خلاف إذا ما حضر الطعام وجلسنا: أيُّنا يأخذ الصدر؟! فالحق سبحانه وتعالى خلقنا مختلفين في أشياء، وأراد أن يكون هذا الاختلاف تكاملاً فيما بيننا.. فكيف يكون التكامل إذن؟ هل نتصور مثلاً أن يُوجَد إنسان مجمعاً للمواهب، بحيث إذا أراد بناء بيت مثلاً كان هو المهندس الذي يرسم، والبنَّاء الذي يبني، والعامل الذي يحمل، والنجار والحداد والسباك.. الخ. هل نتصور أن يكون إنسان هكذا؟.. لا.. ولكن الخالق سبحانه نثَر هذه المواهب بين الناس نَثْراً لكي يظل كل منهم محتاجاً إلى غيره فيما ليس عنده من مواهب، وبهذا يتم التكامل في الكون. إذن: الخلاف بيننا هو عَيْن الوفاق، وهو آية من آياته سبحانه وحكمة أرادها الخالق جَلَّ وعَلا، فقال:وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } [هود: 118]. فقد خلقنا هكذا. وإلا فلو اتحدنا واتفقنا في المواهب، فهل يعقل أن نكون جميعاً فلاسفة، أطباء، علماء، فمَنْ يبني؟ ومَنْ يزرع؟ ومَنْ يصنع؟.. الخ. إذن: من رحمة الله أنْ جعلنا مختلفين متكاملين. فالحق سبحانه يقول: { فِي ٱلْرِّزْقِ.. } [النحل: 71]. ينظر الناس إلى الرزق من ناحية واحدة، فهو عندهم المال، فهذا غنيّ وهذا فقير.. والحقيقة أن الرزق ليس المال فقط، بل كُلّ شيء تنتفع به فهو رِزْقك.. فهذا رِزْقه عقله، وهذا رِزْقه قوته العضلية.. هذا يفكر وهذا يعمل. إذن: يجب ألاَّ ننظر إلى الرزق على أنه لَوْن واحد، بل ننظر إلى كل ما خلق الله لخَلْقه من مواهب مختلفة: صحة، قدرة، ذكاء، حِلْم، شجاعة.. كل هذا من الرزق الذي يحدث فيه التفاضل بين الناس. والحق سبحانه وتعالى حينما تعرَّض لقضية الرزق جعل التفاضل هنا مُبْهماً، ولم تحدد الآية مَنِ الفاضل ومَنِ المفضول، فكلمة - بَعْضٍ - مُبْهمة لنفهم منها أن كل بعض من الأبعاض فاضل في ناحية، ومفضول في ناحية أخرى.

السابقالتالي
2 3 4