الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }

ونعلم أن الإنسانَ في حياته بين أمرين إما ظَاعنٍ أي: مسافر. وإما مقيم. وفي حالة المقيم، فالأنعامُ تُحقِّق له الدِّفْء والطعام والمَلْبس. وعادةً ما يكتفي متوسطُ الحال بأنْ يستقرّ في مكان إقامته وكذلك الفقير. أما المُقْتدر الغنيّ فأنت تجده يوماً في القاهرة، وآخر في الإسكندرية، أو طنطا، وقد يسافر إلى الخارج، وكلُّ ذلك ميسور في زمن المواصلات الحديثة. وقديماً كانت وسائل المواصلات شاقة، ولا يقدر على السفر إلا مَنْ كانت لديه إبل صحيحة أو خيول قوية، أما مَنْ لم يكن يملك إلا حماراً أعجف فهو لا يفكر إلا في المسافات القصيرة. ولذلك نجد القرآن حين تكلم عن أهل سبأ يقول:فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ.. } [سبأ: 19]. وهم قد قالوا ذلك اعتزازاً بما يملكونه من خَيْل ووسائل سفر من دوابّ سليمة وقوية، تُهيِّئ السفر المريح الذي ينمُّ عن العِزّ والقوة والثراء. وقوله الحق: { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ.. } [النحل: 7]. يعني وضع ما يَثْقل على ما يُثَقّل ولذلك فنحن لا نجد إنساناً يحمل دابته بل نجد مَنْ يحمل أثقاله على الدابة ليُخفِّف عن نفسه حَمْل أوزانٍ لا يقدر عليها. ونعلم أن الوزن يتبع الكثافة كما أن الحجمَ يتبع المساحة فحين تنظر إلى كيلو جرام من الحديد وكيلو جرام من القطن، فأنت تجد أن حجم كيلو جرام القطن أكبرُ من حجم كيلو جرام الحديد لأن كثافة الحديد مطمورة فيه، أما نفاشات القطن فهي التي تجعله يحتاج حيزاً أكبر من المساحة. ويتابع الحق سبحانه قوله في الآية الكريمة: { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ.. } [النحل: 7]. ومَنْ يفتش في أساليب القرآن من المستشرقين قد يقول: " إن عَجُزَ الآية غَيْر متفق مع صَدْرها ". ونقول لمثل صاحب هذا القول: أنت لم تفطن إلى المِنّة التي يمتنُّ بها الله على خَلْقه، فهم لم يكونوا بالغين لهذا البلد دون أثقال إلا بمشقَّة فما بالنا بثِقَل المشقة حين تكون معهم أثقال من بضائع ومتاع؟ إنها نعمة كبيرة أنْ يجدوا ما يحملون عليه أثقالهم وأنفسهم ليصلوا إلي حيث يريدون. وكلمة { بِشِقِّ } [النحل] مصدرها شَق وهو الصِّدْع بين شيئين ويعني عَزْل متصلين وسبحانه هو القائل:فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ.. } [الحجر: 94]. وهناك " شَق " وهو الجهد، و " شقَّة ". والإنسان كما نعلم هو بين ثلاث حالات: إمَّا نائم لذلك لا يحتاج إلى طاقة كبيرة تحفظ له حياته وأيضاً وهو مُتيقِّظ فأجهزته لا تحتاج إلى طاقة كبيرة بل تحتاج إلى طاقة مُتوسِّطة لتعملَ أما إنْ كان يحمل أشياءَ ثقيلة فالإنسان يحتاج إلى طاقة أكبر لتعمل أجهزته.

السابقالتالي
2