الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ }

الكون الذي خلقه الله تعالى فيه أجناس متعددة، أدناها الجماد المتمثل في الأرض والجبال والمياه وغيرها، ثم النبات، ثم الحيوان، ثم الإنسان. وفي الآية السابقة أعطانا الحق - تبارك وتعالى - نموذجاً للجماد الذي اهتزَّ بالمطر وأعطانا النبات، وهنا تنقلنا هذه الآية إلى جنس أعلى وهو الحيوان. { وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً.. } [النحل: 66]. والمقصود بالأنعام: الإبل والبقر والغنم والماعز، وقد ذُكِرتْ في سورة الأنعام في قوله تعالى:ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْمَعْزِ ٱثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلأُنثَيَيْنِ أَمَّا ٱشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ ٱلأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ ٱلإِبْلِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ ٱثْنَيْنِ.. } [الأنعام: 143-144]. هذه هي الأنعام. وقوله سبحانه: { لَعِبْرَةً } العِبْرة: الشيء الذي تعتبرون به، وتستنجون منه ما يدلكم على قدرة الصانع الحكيم سبحانه وتعالى، وتأخذون من هذه الأشياء دليلاً على صِدْق منهجه سبحانه فتصدقونه. ومن معاني العبرة: العبور والانتقال من شيء لآخر.. أي: أن تأخذ من شيء عبرة تفيد في شيء آخر. ومنها العَبْرة الدمعة، وهي: شيء دفين نبهْتَ عنه وأظهرتَهُ. والمراد بالعبرة في خلق الأنعام: { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } [النحل: 66]. مادة: سقى جاءت في القرآن مرة " سقى ". ومرة " أَسْقى " ، وبعضهم قال: إن معناهما واحد، ولكن التحقيق أن لكل منهما معنًى، وإن اتفقا في المعنى العام. سقى: كما في قوله تعالى:وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } [الإنسان: 21]. أي: أعطاهم ما يشربونه.. ومضارعه يَسقي. ومنها قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام:فَسَقَىٰ لَهُمَا.. } [القصص: 24]. أما أسقى: كما في قوله تعالى:فَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } [الحجر: 22]. فمعناه أنه سبحانه أنزل الماء من السماء لا يشربه الناس في حال نزوله، ولكن ليكون في الأرض لمن أراد أنْ يشربَ.. فالحق تبارك وتعالى لم يفتح أفواه الناس أثناء نزول المطر ليشربوا منه.. لا.. بل هو مخزون في الأرض لمن أراده. والمضارع من أَسْقى: يُسقي. إذن: هناك فَرْق بين الكلمتين، وإنِ اتفقنا في المعنى العام.. وفرْق بين أن تُعطي ما يُستفَادُ منه في ساعته، مثل قوله:وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ.. } [الإنسان: 21]. وبين أنْ تعطي ما يمكن الاستفادة منه فيما بعد كما في قوله:فَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ.. } [الحجر: 22]. لذلك يقولون: إن الذي يصنع الخير قد يصنعه عاجلاً، فيعطي المحتاج مثلاً رغيفاً يأكله، وقد يصنعه مؤُجّلاً فيعطيه ما يساعده على الكسْب الدائم ليأكل هو متى يشاء من كسْبه. والحق - تبارك وتعالى - أعطانا هذه الفكرة في سورة الكهف، في قصة ذي القرنين، قال تعالى:

السابقالتالي
2