الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }

أي: مُسْتعظمين كقارون الذي قال:إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ.. } [القصص: 78]. أخذتُ هذا بَجْهدي وعملي.. ومثله مَنْ تقول له: الحمد لله الذي وفَّقك في الامتحان، فيقول: أنا كنت مُجِداً.. ذاكرتُ وسهرتُ.. نعم أنت ذاكرتَ، وأيضاً غيرك ذاكر وجَدَّ واجتهد، ولكن أصابه مرض ليلة الامتحان فأقعده، وربما كنت مثله. فهذه نغمة مَنْ أَنكر الفضل، وتكبَّر على صاحب النعمة سبحانه. وقوله: { لِيَكْفُرُواْ.. } [النحل: 55]. هل فعلوا ذلك ليكفروا، فتكون اللام للتعليل؟ لا بل قالوا: اللام هنا لام العاقبة.. ومعناها أنك قد تفعل شيئاً لا لشيء، ولكن الشيء يحدث هكذا، وليس في بالك أنت.. إنما حصل هكذا. ومثال هذه اللام في قوله تعالى في قصة موسى وفرعون:فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً.. } [القصص: 8]. ففرعون حينما أخذ موسى من البحر وتبنَّاه وربَّاه، هل كان يتبنَّاه ليكون له عدواً؟ لا.. إنما هكذا كانت النهاية، لكي يثبت الحق سبحانه أنهم كانوا مُغفَّلين، وأن الله حالَ بين قلوبهم وبين ما يريدون.. إذن: المسألة ليستْ مرادة.. فقد أخذْته وربَّيته في الوقت الذي تقتل فيه الأطفال.. ألم يخطر ببالك أن أحداً خاف عليه، فألقاه في البحر؟! لذا يقول تعالى:وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ.. } [الأنفال: 24]. وكذلك أم موسى:وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ.. } [القصص: 7]. كيف يقبل هذا الكلام؟ وأنَّى للأم أن ترمي ولدها في البحر إنْ خافت عليه؟! كيف يتأتَّى ذلك؟! ولكن حالَ الله بين أم موسى وبين قلبها، فذهب الخوف عليه، وذهب الحنان، وذهبت الرأفة، ولم تكذّب الأمر الموجّه إليها، واعتقدت أن نجاة وليدها في هذا فألقتْه. وقوله: { فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 55]. أي: اكفروا بما آتيناكم من النعم، وبما كشفنا عنكم من الضر، وتمتعوا في الدنيا لأنني لم اجعل الدنيا دار جزاء، إنما الجزاء في الآخرة. وكلمة { تَمَتَّعُواْ } هنا تدل على أن الله تعالى قد يُوالي نِعمه حتى على مَنْ يكفر بنعمته، وإلاَّ فلو حَجَب عنهم نِعَمه فلن يكون هناك تمتُّع. ويقول تعالى: { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 55]. أي: سوف تروْنَ نتيجة أعمالكم، ففيها تهديد ووعيد. ثم يقول الحق سبحانه: { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ... }.