الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ ٱلضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ }

فالحق سبحانه يقول هنا: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً.. } [النحل: 36]. وفي آية أخرى يقول سبحانه:مِن كُلِّ أُمَّةٍ.. } [النحل: 84]. فهذه لها معنى، وهذه لها معنى.. فقوله:مِن كُلِّ أُمَّةٍ.. } [النحل: 84]. أي: من أنفسهم، منهم خرج، وبينهم تربَّى ودَرَج، يعرفون خِصَاله وصِدْقه ومكانته في قومه. أما قوله تعالى: { فِي كُلِّ أُمَّةٍ.. } [النحل: 36]. فـ " في " هنا تفيد الظرفية. أي: في الأمة كلها، وهذه تفيد التغلغل في جميع الأمة.. فلا يصل البلاغ منه إلى جماعة دون أخرى، بل لا بُدَّ من عموم البلاغ لجميع الأمة. وكذلك يقول تعالى مرة:أَرْسَلْنَا.. } [الحديد: 26]. ومرة أخرى يقول: { بَعَثْنَا.. } [النحل: 36]. وهناك فرق بين المعنيين فـ { أَرْسَلْنَا } تفيد الإرسال، وهو: أن يتوسط مُرْسَل إلى مُرْسَل إليه. أما { بَعَثْنَا } فتفيد وجود شيء سابق اندثر، ونريد بعثه من جديد. ولتوضيح هذه القضية نرجح إلى قصة آدم - عليه السلام - حيث عَلّمه الله الأسماء كلها، ثم أهبطه من الجنة إلى الأرض. وقال:فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة: 38]. وقال في آية أخرى:فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ } [طه: 123]. إذن: هذا منهج من الله تعالى لآدم ـ عليه السلام ـ والمفروض أن يُبلِّغ آدم هذا المنهج لأبنائه، والمفروض في أبنائه أن يُبلِّغوا هذا المنهج لأبنائهم، وهكذا، إلا أن الغفلة قد تستحوذ على المبلِّغ للمنهج، أو عدم رعاية المبلِّغ للمنهج فتنطمس المناهج، ومن هنا يبعثها الله من جديد، فمسألة الرسالات لا تأتي هكذا فجأة فجماعة من الجماعات، بل هي موجودة منذ أول الخلق. فالرسالات إذن بَعْثٌ لمنهج إلهي، كان يجب أنْ يظلَّ على ذكر من الناس، يتناقله الأبناء عن الآباء، إلا أن الغفلة قد تصيب المبلّغ فلا يُبلّغ، وقد تصيب المبلَّغ فلا يلتزم بالبلاغ لذلك يجدد الله الرسل. وقد وردت آياتٌ كثيرة في هذا المعنى، مثل قوله تعالى:وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [فاطر: 24]. وقوله:ذٰلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } [الأنعام: 131]. وقوله:وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء: 15]. لذلك نرى غير المؤمنين بمنهج السماء يَضعُون لأنفسهم القوانين التي تُنظِّم حياتهم، أليس لديهم قانون يُحدِّد الجرائم ويُعاقب عليها؟ فلا عقوبة إلا بتجريم، ولا تجريمَ إلا بنصٍّ، ولا نصَّ إلا بإبلاغ. ومن هنا تأتي أهمية وَضْع القوانين ونشرها في الصحف والجرائد العامة ليعلمها الجميع، فلا يصح أنْ نعاقبَ إنساناً على جريمة هو لا يعلم أنها جريمة، فلا بُدَّ من إبلاغه بها أولاً، ليعلم أن هذا العمل عقوبته كذا وكذا، ومن هنا تُقام عليه الحُجة.

السابقالتالي
2 3 4 5