الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ قَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى ٱللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ ٱلْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ }

ويأتي الحق سبحانه هنا بسيرة الأولين والسُّنن التي أجراها سبحانه عليهم، ليسلي رسوله صلى الله عليه وسلم ويُوضِّح له أن ما حدث معه ليس بدْعاً بل سبق أنْ حدث مع مَنْ سبق من الرسل. ويُبلغه أنه لم يبعث أيَّ رسول إلا بعد تَعُمّ البَلْوى ويَطم الفساد، ويفقد البشر المناعة الإيمانية، نتيجة افتقاد مَنْ يؤمنون ويعملون الصالحات، ويتواصون بالحقِّ وبالصبر. والمَثلُ الواضح على ذلك ما حدث لبني إسرائيل الذين قال فيهم الحق سبحانه:كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ.. } [المائدة: 79]. فانصبَّ عليهم العذاب من الله، وهذا مصير كُلِّ أمة لا تتناهى عن المنكر الظاهر أمامها. ويقول سبحانه هنا: { قَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.. } [النحل: 26]. والمكر تبييت خفيّ يُبيِّته الماكر بما يستر عن المَمْكُور به. ولكن حين يمكر أحد بالرسل فهو يمكر بمَنْ يُؤيِّده الله العالم العليم. وإذا ما أعلم اللهُ رسولَه بالمكر فهو يُلغِي كل أثر لهذا التبييت فقد علمه مَنْ يقدر على إبطاله. والحق سبحانه هو القائل:كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ.. } [المجادلة: 21]. وهو القائل:وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ } [الصافات: 171-172]. وطبَّق الحق سبحانه ذلك على رسوله صلى الله عليه وسلم حين مكر به كفار قريش وجمعوا شباب القبائل ليقتلوه فأغشاهم الله ولم يبصروا خروجه للهجرة ولم ينتصر عليه معسكر الكفر بأيِّ وسيلة لا باعتداءات اللسان، ولا باعتداءات الجوارح. وهؤلاء الذين يمكرون بالرسل لم يتركهم الحق سبحانه دون عقاب: { فَأَتَى ٱللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ ٱلْقَوَاعِدِ.. } [النحل: 26]. أي: أنهم إنْ جعلوا مكرهم كالبناية العالية فالحقُّ سبحانه يتركهم لإحساس الأمن المُزيف، ويحفر لهم مِنْ تحتها، فيخِرّ عليهم السقف الذي من فوقهم. وهكذا يضرب الله المثَل المعنوي بأمرٍ مَحَسٍّ. وقوله الحق: { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ.. } [النحل: 26]. يُوضِّح أنهم موجودون داخل هذا البيت، وأن الفوقية هنا للسقف، وهي فوقية شاءها الله ليأتيهم: { ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } [النحل: 26]. وهكذا يأتي عذاب الله بَغْتة ذلك أنهم قد بيَّتوا، وظنوا أن هذا التبييت بخفاء يَخْفَى عن الحَيِّ القيوم. ولَيْتَ الأمرَ يقتصر على ذلك لا بل يُعذِّبهم الله في الآخرة أيضاً: { ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ... }.