الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ }

ونعلم أن الكلام الذي يلقيه المتكلم للسامع يأخذ صوراً متعددة فمرَّة يأخذ صورة الخبر، كأن يقول: مَنْ لا يخلق ليس كَمنْ يخلق. وهذا كلام خبريّ، يصح أنْ تُصدِّقه، ويصحّ ألاَّ تُصدّقه. أما إذا أراد المتكلم أن يأتي منك أنت التصديق، ويجعلك تنطق به فهو يأتي لك بصيغة سؤال، لا تستطيع إلا أنْ تجيبَ عليه بالتأكيد لِمَا يرغبه المتكلِّم. ونعلم أن قريشاً كانت تعبد الأصنام وجعلوها آلهة وهي لم تكلمهم، ولم تُنزِل منهجاً، وقالوا ما أورده الحق سبحانه على ألسنتهم:مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ.. } [الزمر: 3]. فلماذا إذن لا يعبدون الله مباشرة دون وساطة؟ ولماذا لا يرفعون عن أنفسهم مشقة العبادة، ويتجهون إلى الله مباشرة؟ ثم لنسأل: ما هي العبادة؟ نعلم أن العبادة تعني الطاعة في " افعل " و " لا تفعل " التي تصدر من المعبود. وبطبيعة الحال لا توجد أوامر أو تكاليف من الأصنام لِمَنْ يعبدونها، فهي معبودات بلا منهج، وبلا جزاء لِمَن خالف، وبلا ثواب لِمَنْ أطاع، وبالتالي لا تصلح تلك الأصنام للعبادة. ولنناقش المسألة من زاوية أخرى، لقد أوضح الحق سبحانه أنه هو الذي خلق السماوات والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، وسخر كل الكائنات لخدمة الإنسان الذي أوكل إليه مهمة خلافته في الأرض. وكلُّ تلك الأمور لا يدعيها أحد غير الله، بل إنك إنْ سألتَ الكفار والمشركين عمَّن خلقهم ليقولن الله. قال الحق سبحانه:وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ.. } [الزخرف: 87]. ذلك أن عملية الإيجاد والخَلْق لا يجرؤ أحدٌ أنْ يدَّعيَها إنْ لم يكُنْ هو الذي أبدعها، وحين تسألهم: مَنْ خلق السماوات والأرض لقالوا: إنه الله. وقد أبلغهم محمد صلى الله عليه وسلم أن الله هو الذي خلق السماوات والأرض، وأن منهجه لإدارة الكون يبدأ من عبادته سبحانه. وما دام قد ادَّعى الحق سبحانه ذلك، ولم يوجد مَنْ ينازعه فالدعوة تثبُت له إلى أنْ يوجد معارض، ولم يوجد هذا المُعَارض أبداً. وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها لم يَقُل الحق سبحانه " أتجعلون مَنْ لا يخلق مِثْل من يخلق ". بل قال: { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [النحل: 17]. ووراء ذلك حكمة فهؤلاء الذين نزل إليهم الحديث تعاملوا مع الأصنام وكأنها الله وتوهَّموا أن الله مخلوق مثل تلك الأصنام ولذلك جاء القول الذي يناسب هذا التصوُّر. والحق سبحانه يريد أنْ يبطل هذا التصوُّر من الأساس فأوضح أن مَنْ تعبدونهم هم أصنام من الحجارة وهي مادة ولها صورة، وأنتم صنعتموها على حَسْب تصوُّركم وقدراتكم. وفي هذه الحالة يكون المعبود أقلَّ درجة من العابد وأدنى منه فضلاً عن أن تلك الأصنام لا تملك لِمَنْ يعبدها ضراً ولا نفعاً. ثم: لماذا تدعون الله إنْ مسَّكُم ضُرٌّ؟ إن الإنسان يدعو الله في موقف الضر لأنه لحظتها لا يجرؤ على خداع نفسه، أما الآلهة التي صنعوها وعبدوها فهي لا تسمع الدعاء:إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [فاطر: 14]. فكيف إذن تساوون بين مَنْ لا يخلق، ومن يخلق؟ إن عليكم أنْ تتذكَّروا، وأنْ تتفكَّروا، وأن تُعْمِلوا عقولكم فيما ينفعكم. ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ... }.