الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ٱلْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

والتسخير كما علمنا من قَبْل هو إيجاد الكائن لمهمة لا يستطيع الكائن أنْ يتخلَّف عنها، ولا اختيارَ له في أنْ يؤدِّيها أو لا يُؤدِّيها. ونعلم أن الكون كله مُسخَّر للإنسان قبل أنْ يُوجدَ ثم خلق الله الإنسان مُخْتاراً. وقد يظن البعض أن الكائنات المُسخَّرة ليس لها اختيار، وهذا خطأ لأن تلك الكائنات لها اختيار حَسمتْه في بداية وجودها، ولنقرأْ قوله الحق:إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا.. } [الأحزاب: 72]. وهكذا نفهم أن الحق سبحانه خيَّر خلقه بين التسخير وبين الاختيار، إلا أن الكائنات التي هي ما دون الإنسان أخذتْ اختيارها مرَّة واحدة لذلك لا يجب أنْ يُقال: إن الحق سبحانه هو الذي قهرها، بل هي التي اختارتْ من أول الأمر لأنها قدرتْ وقت الأداء، ولم تقدر فقط وقت التحمل كما فعل الإنسان، وكأنها قالت لنفسها: فلأخرج من باب الجَمال قبل أن ينفتحَ أمامي باب ظلم النفس. ونجد الحق سبحانه يصف الإنسان:إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [الأحزاب: 72]. فقد ظلم الإنسانُ نفسَه حين اختار أنْ يحملَ الأمانة لأنه قدر وقت التحمُّل ولم يقدر وقت الأداء. وهو جَهُول لأنه لم يعرف كيف يُفرِّق بين الأداء والتحمُّل، بينما منعت الكائنات الأخرى نفسها من أن تتحمَّل مسئولية الأمانة، فلم تظلم نفسها بذلك. وهكذا نصل إلى تأكيد معنى التسخير وتوضيحه بشكل دقيق، ونعرف أنه إيجاد الكائن لمهمة لا يملك أن يتخلَّف عنها أما الاختيار فهو إيجاد الكائن لِمُهِمة له أنْ يُؤدِّيها أو يتخلَّف عنها. وأوضحنا أن المُسخَّرات كان لها أنْ تختارَ من البداية، فاختارتْ أن تُسخِّر وألاَّ تتحملَ الأمانة، بينما أخذ الإنسانُ المهمةَ، واعتمد على عقله وفِكْره، وقَبِل أن يُرتِّب أمور حياته على ضوء ذلك. ومع ذلك أعطاه الله بعضاً من التسخير كي يجعل الكون كله فيه بعض من التسخير وبعض من الاختيار ولذلك نجد بعضاً من الأحداث تجري على الإنسان ولا اختيارَ له فيها كأن يمرضَ أو تقع له حادثة أو يُفلس. ولذلك أقول: إن الكافر مُغفّل لاختياره لأنه ينكر وجود الله ويتمرَّد على الإيمان، رغم أنه لا يقدر أن يصُدَّ عن نفسه المرض أو الموت. وفي الآية التي نحن بصددها الآن يقول الحق سبحانه: { وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ.. } [النحل: 14]. فهذا يعني أنه هو الذي خلق البحر، لأنه هو الذي خلق السماوات والأرض وجعل اليابسة ربع مساحة الأرض بينما البحار والمحيطات تحتل ثلاثة أرباع مساحة الأرض. أي: أنه يُحدِّثنا هنا عن ثلاثة أرباع الأرض، وأوجد البحار والمحيطات على هيئة نستطيع أن نأخذَ منها بعضاً من الطعام فيقول: { لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا.

السابقالتالي
2 3 4