الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوۤاْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }

قوله: { بَدَّلْنَآ } ومنها: أبدلت واستبدلْتُ، أي: رفعتُ آية وطرحتُها. وجئت بأخرى بدلاً منها، وقد تدخل الباء على الشيء المتروك، كما في قوله تعالى:أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ.. } [البقرة: 61]. أي: تتركون ما هو خير، وتستبدلون به ما هو أدنى. وما معنى الآية؟ كلمة آية لها مَعَانٍ متعددة منها: - الشيء العجيب الذي يُلفت الأنظار، ويُبهر العقول، كما نقول: هذا آية في الجمال، أو في الشجاعة، أو في الذكاء، أي: وصل فيه إلى حَدٍّ يدعو إلى التعجُّب والانبهار. - ومنها الآيات الكونية، حينما تتأمل في كون الله من حولك تجد آياتٍ تدلُّ على إبداع الخالق سبحانه وعجيب صنعته، وتجد تناسقاً وانسجاماً بين هذه الآيات الكونية. يقول تعالى عن هذا النوع من الآيات:وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلَّيلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ } [فصلت: 37].وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلْجَوَارِ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } [الشورى: 32]. ونلاحظ أن هذه الآيات الكونية ثابتة دائمة لا تتبدّل، كما قال الحق تبارك وتعالى:وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً.. } [الفتح: 23]. ـ ومن معاني الآية: المعجزة، وهي الأمر العجيب الخارق للعادة، وتأتي المعجزة على أيدي الأنبياء لتكون حُجّة لهم، ودليلاً على صدق ما جاءوا به من عند الله. ونلاحظ في هذا النوع من الآيات أنه يتبدّل ويتغيّر من نبي لآخر لأن المعجزة لا يكون لها أثرها إلا إذا كان في شيء نبغ فيه القوم لأن هذا هو مجال الإعجاز، فلو أتيناهم بمعجزة في مجال لا عِلْمَ لهم به لقالوا: لو أن لنا عِلْماً بهذا لأتيْنا بمثله لذلك تأتي المعجزة فيما نبغُوا فيه، وعَلموه جيداً حتى اشتهروا به. فلما نبغَ قوم موسى عليه السلام في السحر كانت معجزته من نوع السحر الذي يتحدى سحرهم، فلما جاء عيسى - عليه السلام - ونبغ قومه في الطب والحكمة كانت معجزته من نفس النوع، فكان - عليه السلام - يبرىء الأكمه والأبرص ويحي الموتى بإذن الله. فلما بُعِث محمد صلى الله عليه وسلم، ونبغ قومه في البلاغة والفصاحة والبيان، وكانوا يقيمون لها الأسواق، ويُعلّقون قصائدهم على أستار الكعبة اعتزازاً بها، فكان لا بُدَّ أنْ يتحدّاهم بمعجزة من جنس ما نبغوا فيه وهي القرآن الكريم، وهكذا تتبدّل المعجزات لتناسب كُلٌّ منها حال القوم، وتتحدّاهم بما اشتهروا به، لتكون أَدْعى للتصديق وأثبت للحجة. - ومن معاني كلمة آية: آيات القرآن الكريم التي نُسميّها حاملة الأحكام، فإذا كانت الآية هي الأمر العجيب، فما وجه العجب في آيات القرآن؟ وجه العجب في آيات القرآن أن تجدَ هذه الآيات في أُمّة أُمية، وأُنزِلتْ على نبي أُميٍّ في قوم من البدو الرُّحل الذين لا يجيدون شيئاً غير صناعة القول والكلام الفصيح، ثم تجد هذه الآيات تحمل من القوانين والأحكام والآداب ما يُرهب أقوى حضارتين معاصرتين، هما حضارة فارس في الشرق، وحضارة الرومان في الغرب، فنراهم يتطلّعون للإسلام، ويبتغون في أحكامه ما ينقذهم، أليس هذا عجيباً؟ وهذا النوع الأخير من الآيات التي هي آيات الكتاب الكريم، والتي نُسمّيها حاملة الأحكام، هل تتبدّل هي الأخرى كسابقتها؟ نقول: آيات الكتاب لا تتبدّل لأن أحكام الله المطلوبة مِمَّن عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم كالأحكام المطلوبة مِمَّنْ تقوم عليه الساعة.

السابقالتالي
2 3 4 5