الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ }

وقوله: { أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً.. } [النحل: 10]. يبدو قولاً بسيطاً ولكن إنْ نظرنا إلى المعامل التي تُقطِّر المياه وتُخلِّصها من الشوائب لَعلِمْنَا قَدْر العمل المبذول لنزول الماء الصافي من المطر. والسماء - كما نعلم - هي كل ما يعلونا، ونحن نرى السحاب الذي يجيء نتيجة تبخير الشمس للمياه من المحيطات والبحار، فيتكوَّن البخار الذي يتصاعد، ثم يتكثَّف ليصيرَ مطراً من بعد ذلك وينزل المطر على الأرض. ونعلم أن الكرة الأرضية مُكوَّنة من محيطات وبحار تُغطِّي ثلاثة أرباع مساحتها، بينما تبلغ مساحة اليابسة رُبْع الكرة الأرضية فكأنه جعل ثلاثة أرباع مساحة الكرة الأرضية لخدمة رُبْع الكرة الأرضية. ومن العجيب أن المطر يسقط في مواقع قد لا تنتفع به، مثل هضاب الحبشة التي تسقط عليها الأمطار وتصحب من تلك الهضاب مادة الطمي لِتُكوِّن نهر النيل لنستفيد نحن منه. ونجد الحق سبحانه يقول:أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ.. } [النور: 43]. وهنا يقول الحق سبحانه:هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ } [النحل: 10]. ولولا عملية البَخْر وإعادة تكثيف البخار بعد أن يصير سحاباً لَمَا استطاع الإنسانُ أنْ يشربَ الماء المالح الموجود في البحار، ومن حكمة الحق سبحانه أن جعل مياه البحار والمحيطات مالحةً فالمِلْح يحفظ المياه من الفساد. وبعد أن تُبخِّر الشمسُ المياه لتصير سحاباً، ويسقط المطر يشرب الإنسانُ هذا الماء الذي يُغذِّي الأنهار والآبار، وكذلك ينبت الماء الزرع الذي نأكل منه. وكلمة { شَجَرٌ } تدلُّ على النبات الذي يلتفُّ مع بعضه. ومنها كلمة " مشاجرة " والتي تعني التداخل من الذين يتشاجرون معاً. والشجر أنواع فيه مغروس بمالك وهو مِلْك لِمَنْ يغرسه ويُشرِف على إنباته، وفيه ما يخرج من الأرض دون أنْ يزرعه أحد وهو مِلْكية مشاعة، وعادة ما نترك فيه الدَّواب لترعى، فتأكل منه دون أنْ يردَّها أحد. وهنا يقول الحق سبحانه: { فِيهِ تُسِيمُونَ } [النحل: 10]. من سَام الدابة التي تَرْعى في المِلْك العام، وساعة ترعى الدابة في المِلْك العام فهي تترك آثارها من مَسَارب وعلامات. ويُسَمُّون الأرضَ التي يوجد بها نبات ولا يقربها حيوان بأنها " روضة أنُف " بمعنى أن أحداً لم يَأتِ إِليها أو يَقربها كأنها أنفت أنْ يقطف منها شيء. ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: { يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ... }.