الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ }

وسبحانه يتكلّم هنا عن خَلْق الإنسان من بعد أن تكلم عن خَلْق الكون وما أعدَّه له فيه، وليستقبل الكون الخليفةَ لله فيوضح أنه قد خلقه من الصَّلصال، وهو الطين اليابس. وجاء سبحانه بخبر الخَلْق في هذه السورة التي تضمنت خبر مَدِّ الأرض ومَجِيء الرياح، وكيفية إنزال الماء من السماء وكيف قَدَّر في الأرض الرزق، وجعل في الأرض رواسي، وجعل كُلّ شيء موزوناً. وهو سبحانه قد استهلَّ السورة بقوله:تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ } [الحجر: 1]. أي: أنه افتتح السورة بالكلام عن حارس القِيم للحركة الإنسانية ثم تكلّم عن المادة التي منها الحياة وبذلك شمل الحديثُ الكلامَ عن المُقوِّم الأساسي للقيم وهو القرآن، والكلام عن مُقوِّم المادة وكان ذلك أمراً طبيعياً ودَلّلْتُ عليه سابقاً بحديثي عن مُصمِّم أيّ جهاز من الأجهزة الحديثة حيث يحدد أولاً الغرض منه ثم يضع جدولاً وبرنامجاً لصيانة كل جهاز من تلك الأجهزة. وهكذا كان خَلْق الله للإنسان الذي شاء له سبحانه أن يكون خليفته في الأرض، ووضع له مُقوِّمات مادة ومُقوّمات قِيم وجاء بالحديث عن مُقوِّمات القِيَم أولاً لأنها ستمدّ حياة الإنسان لتكون حياة لا تنتهي، وهي الحياة في الدنيا والآخرة. وهذا القول يُوضِّح لنا أن آدم ليس هو أول من استعمر الأرض بل كان هناك خَلْق من قَبْل آدم، فإذا حدَّثنا علماء الجيولوجيا والحفريات عن أن هناك ما يدل على وجود بعض من الكائنات المطمورة تثبت أنه كانت هناك حياة منذ خمسين ألف قرن من الزمان. فنحن نقول له: إن قولك صحيح. وحين يسمع البعض قَوْل هؤلاء العلماء يقولون: لا بُدَّ أن تلك الحيوانات كانت موجودة في زمن آدم عليه السلام، وهؤلاء يتجاهلون أن الحق سبحانه لم يَقُلْ لنا أن آدم هو أول مَنْ عَمَر الأرض، بل شاء سبحانه أن يخلقنا ويعطينا مهمة الاستخلاف في الأرض. والحق سبحانه هو القائل:إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُـمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ } [فاطر: 16-17]. أي: أن خَلْق غيرنا أمر وارد، وكذلك الخَلْق من قبلنا أمرٌ وارد. ونعلم أن خَلْق آدم قد أخذ لقطاتٍ متعددة في القرآن الكريم تُؤدّي في مجموعها إلى القصة بكل أحداثها وأركانها، ولم يكُنْ ذلك تكراراً في القرآن الكريم، ولكن جاء القرآن بكل لَقْطة في الموقع المناسب لها ذلك أنه ليس كتاب تاريخ للبشر بل كتاب قِيَم ومنهج، ويريد أن يُؤسّس في البشر القيم التي تحميهم وتصونهم من أيّ انحراف، ويريد أن يُربِّيَ فيهم المهابة. وقد تناول الحق سبحانه كيفية خَلْق الإنسان في الكثير من سُور القرآن: البقرة الأعراف الحجر الإسراء الكهف وسورة ص. قال سبحانه - على سبيل المثال - في سورة البقرة:

السابقالتالي
2