الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي ٱلسَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ }

والبروج تعني المباني العالية، والحق سبحانه هو القائل:أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } [النساء: 78]. وهو سبحانه القائل:وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ } [البروج: 1]. والمعنى الجامع لكل هذا هو الزينة المُلْفتة بجِرْمها العالي وقد تكون مُلْفِتة بجمالها الأخَّاذ. والبروج هي جمع بُرْج وهي منازل الشمس والقمر فكلما تحركت الشمس في السماء تنتقل من برج إلى آخر وكذلك القمر، مصداقاً لقول الحق سبحانه:كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [الأنبياء: 33]. وهو سبحانه القائل:هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ } [يونس: 5]. أي: لنضبط كل التوقيتات على ضَوْء تلك الحركة لكل من الشمس والقمر، ونحن حين نفتح أيَّ جريدة نقرأ ما يُسمَّى بأبواب الطالع، وفيه أسماء الأبراج: برج الحَمَل، وبرج الجدي، وبرج العذراء وغيرها، وهي أسماء سريانية للمنازل التي تنزلها أبراج النجوم. ويقول الشاعر:
حَملَ الثورُ جَوْزَة السرطَانِ   ورعَى الليْثُ سُنبل المِيزَانِ
عقربَ القوس جَدي دَلْو   وحُوت ما عرفنَا من أُمة السّريَانِ
وهم اثنا عشر برجاً، ولكل برج مقاييس في الجو والطقس. وحين نقرأ القرآن نجد قول الحق سبحانه:وَعَلامَاتٍ وَبِٱلنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } [النحل: 16]. والبعض يحاول أن يجد تأثيراً لكل برج على المواليد الذين يُولدون أثناء ظهور هذا البرج، ولعل مَنْ يقول ذلك يصل إلى فَهْم لبعض من أسرار الله في كونه ذلك أنه سبحانه قد أقسم بمواقع النجوم، وقال:فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [الواقعة: 75-76]. وهناك مَنْ يقول: إن لكل إنسان نجماً يُولَد معه ويموت معه لذلك يُقَال " هوى نجم فلان " ، ونحن لا نجزم بصِحة أو عدم صِحّة مثل هذه الأمور لأنه لم تثبُت علمياً، والحق سبحانه أعلم بأسراره، وقد يُعلمها لبعضٍ من خَلْقه. وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد قول الحق سبحانه: { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي ٱلسَّمَاءِ بُرُوجاً... } [الحجر: 16]. أي: أن هناك تأكيداً لوجود تلك البروج في السماء، وليس هذا الجَعْل لتأثيرها في الجو، أو لأنها علامات نهتدي بها، فضلاً عن تأثيرها على الحرارة والرطوبة والنباتات، ولكنها فوق كل ذلك تؤدي مُهمة جمالية كبيرة، وهي أن تكون زينة لكل مَنْ ينظر إليها. لذلك قال الحق سبحانه: { وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ } [الحجر: 16]. ذلك أن الشيء قد يكون نافعاً لكن ليس له قيمة جمالية وشاء الحق سبحانه أن يجعل للنجوم قيمة جمالية، ذلك أنه قد خلق الإنسان، ويعلم أن لنفسه مَلكاتٍ مُتعددة، وكُلّ مَلَكةٍ لها غذاء. فغذاءُ العين المنظر الجميل والأذن غذاؤها الصوت الجميل، والأنف غذاؤه الرائحة الطيبة واللسان يعجبه المذاق الطيب، واليد يعجبها المَلْمَس الناعم وهذا ما نعرفه من غذاء المَلَكات للحواس الخمس التي نعرفها. وهناك مَلَكات أخرى في النفس الإنسانية تحتاج كل منها إلى غذاء معين، وقد يُسبّب أخذ مَلَكة من مَلَكات النفس لأكثر المطلوب لها من غذاء أن تَفْسد تلك المَلَكة وكذلك قد يُسبِّب الحرمان لِملَكة ما فساداً تكوينياً في النفس البشرية.

السابقالتالي
2