الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ ءَامِناً وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ }

وحين يقول سبحانه إذ أي " اذكر " ويقول من بعد ذلك على لسان إبراهيم رَبّ ولم يَقُلْ " يا الله " ذلك أن إبراهيم كان يرفع دعاءه للخالق المربِّي، لذلك قال " ربّي " ولم يَقُل " يا الله " لأن عطاءَ الله تكليفٌ، وأمام التكليف هناك تخيير في أن تفعل ولا تفعل، مثل قوله سبحانه:وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ.. } [البقرة: 43]. أما عطاء الربوبية فهو ما يقيم حياة المُصلِّين وغير المُصلِّين. ولم تَأْتِ مسألة إبراهيم هنا قَفْزاً ولكِنّا نعلم أن القرآن قد نزل، وأول مَنْ سيسمعه هُم السادة من قريش الذين تمتَّعوا بالمهابَةِ والسيادة على الجزيرة العربية ولا يجرؤ أحد على التعرُّض لقوافلها في رِحْلَتَيْ الشتاء والصيف لليمن والشام وهم قد أخذوا المهابة من البيت الحرام. ولذلك تكلَّم الحق سبحانه عن النعمة العامة لكل كائن موجود تنتظر أُذنه نداء الإسلام وبعد ذلك يتكلم الحق سبحانه عن النعم التي تخصُّهم لذلك قال: { رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ آمِناً.. } [إبراهيم: 35]. وقد وردتْ هذه الجملة في سورة البقرة بأسلوب آخر، وهو قول الحق سبحانه:وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً.. } [البقرة: 126]. والفرق بين " البلد " و " بلداً " يحتاج مِنّا أن نشرحه، فـ " بلداً " تعني أن المكان كان قَفْراً ودعا إبراهيم أن يصبحَ هذا المكانُ بلداً آمناً أي: أن يجد مَن يقيمون فيه، يُجدّدون حاجاتهم ومتُطلباتهم وتكون وسائل الرزق فيه مُيسَّرة، ودعاؤه أيضاً شمل طلب الأمن، أي: ألاّ يوجد به ما يُهدّد طمأنينة الناس على يومهم العاديّ ووسائل رزقهم. وأجاب الحق سبحانه دعاء إبراهيم فصار المكان بلداً وجعله سبحانه آمناً أماناً عاماً لأن الإنسان في أيّ بُقْعة من بقاع الأرض لا يتخذ مكاناً يجلس فيه ويقيم ويتوطّن إلا إذا ضمن لنفسه أسباب الأمن من مُقوّمات حياة ومن عدم تفزيعه تفزيعاً قوياً، وهذا الأمن مطلوب لكل إنسان في أيّ أرض. وقد دعا إبراهيم عليه السلام هذا الدعاء وقت أنْ نزلَ هذا المكان، وكان وادياً غير ذي زرع ولا مُقوّمات للحياة فيه فكان دعاؤه هذا الذي جاء ذِكْره في سورة البقرة. أما هنا فقد صار المكان بلداً وكان الدعاء بالأمن لثاني مرة هي دعوة لأمن خاص ففي غير هذا المكان يمكن أن تُقطع شجرة أو يصْطاد صَيْد ولكن في هذا المكان هناك أَمْنٌ خاصّ جداً أمنٌ للنبات ولكُلّ شيء يوجد فيه فحتى الحيوان لا يُصَاد فيه وحتى فاعل الجريمة لا يُمَسّ. وهكذا اختلف الدعاء الأول بالأمن عن الدعاء الثاني فالدعاء الأول: هو دعاء بالأمن العام والدعاء الثاني: هو دعاء بالأمن الخاص ذلك أن كل بلد يوجد قد يتحقق فيه الأمن العام ولكن بلد البيت الحرام يتمتع بأمنٍ يشمل كل الكائنات.

السابقالتالي
2 3