الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ } * { تُؤْتِيۤ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }

والمَثَل هو الشيء الذي يوضح بالجلي الخفي. وأنت تقول لصديق لك: هل رأيتَ فلاناً؟ فيقول لك: لا لم أرَه فتقول له: إنه يُشبه صديقنا علان. وهكذا توضح أنت مَنْ خَفِي عن مُخَيلة صديقك بمَنْ هو واضح الصورة في مُخَيلته. والحق - سبحانه وتعالى - يضرب لنا الأمثال بالأمور المُحسَّة، كي ينقل المعاني إلى أذهاننا لأن الإنسان له إلْفٌ بالمحُسِّ وإدراكات حواسه تعطيه أموراً حسية أولاً، ثم تحقق له المعاني بعد ذلك. ويقول الحق سبحانه:إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا.. } [البقرة: 26]. وقد قال الكافرون: أيضرب الحق مثلاً ببعوضة؟ ذلك أنهم لم يعرفوا أن البعوضة لها حياة، وفيها حركة كأيِّ كائن وتركيبها التشريحي يتشابه مع التركيب التشريحي لكل الأحياء في التفاصيل ويؤدي كل الوظائف الحيوية المطلوبة منه. ولا أحدَ غير الدارسين لعلم الحشرات يمكن أن يعرف كيف تتنفس، أو كيف تهضم طعامها ولا كيفية وجود جهاز دمويّ فيها أو مكان الغُدد الخاصة بها وهي حشرة دقيقة الصنع. وهو سبحانه ضرب الأمثال الكثيرة لِيُوضِّح الأمر الخفيّ بأمر جَليّ. ومن بعد ذلك ينتشر المثَل بين الناس. ونقول: إن كلمة " ضرب " مثلها مثل " ضرب العملة " ، وكان الناس قديماً يأتون بقطع من الفضة أو الذهب ويُشكِّلونها بقدْر وشَكلْ مُحدّد لِتدُل على قيمة ما، وتصير بذلك عُمْلة متداولة، ويُقَال - أيضاً - " ضُرِب في مصر " أي: اعتمد وصار أمراً واقعاً. وكذلك المثَل حين ينتشر ويصبح أمراً واقعاً. والمثل الذي يضربه الحق سبحانه هنا هو الكلمة الطيبة ولها أربع خصائص: { كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ.. } [إبراهيم: 24]. أي: تعطيك طِيباً تستريح له نفسُك إما منظراً أو رائحة أو ثماراً أو كُل ذلك مجتمعاً فقوله: { كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ.. } [إبراهيم: 24]. يُوحي بأن كُلّ الحواس تجد فيها ما يُريحها وكلمة " طيبة " مأخوذة من الطِّيب في جميع وسائل الإحساس. فالخاصية الأولى، أنها شجرة طيبة، أما الخاصية الثانية فهي أن أصلها ثابت، كإيمان المؤمن المحب، والثالثة أن فروعها في السماء، وهذا دليل أيضاً على ثبات الأصل وطيب منبتها. أما الخاصية الرابعة فهي أن تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، أي: فيها عطاء المدد الذي لا يعرف الحد ولا العدد، وهي تدل على صفات المؤمنين المحبين. وبما أنها شجرة طيبة فهي كائن نباتيّ لا بُدّ لها من أن تتغذَّى لتحفظ مُقوِّمات حياتها. ومُقوِّمات حياة النبات توجد في الأرض، فإنْ كانت الشجرة مُخَلْخَلة وغير ثابتة فهي لن تستطيع أن تأخذ غذاءها. ولذلك يقول الحق سبحانه عن تلك الشجرة: { أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ.

السابقالتالي
2 3 4 5