الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ ٱلضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُوۤاْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا ٱللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ }

والبروز أن يظهر شيء كان خفياً. ويُقال " رجل بارز " أي: مرموق وقَيْد الأبصار، ولا تُفتَح الدنيا إلا عليه، ويُقال " امرأة بارزة " أي: امرأة تختلط بالرجال وغير مُستترة. ويقول سبحانه:وَتَرَى ٱلأَرْضَ بَارِزَةً.. } [الكهف: 47]. أي: سيرى كُلٌّ منا كُلّ الأرض في اليوم الآخر وهي مكتملة لا جزء منها فقط كما يحدث في حياتنا الدنيوية ذلك أن الحق سبحانه قد قال لنا:فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ق: 22]. ويُقال أيضاً " فرس بارز " وهو ما يطلق على الحصان الذي يفوز عند التسابق مع غيره ولا يستطيع فرس آخر أنْ يسبقه لذلك فهو فرس تراه العين أثناء السباق بوضوح. ونعلم أن الخيْلَ في لحظات السباق تثير أثناء تسابقها غباراً - أي: تراباً يُضبِّب المرئيات - فلا يرى أحد تفاصيل الموقع الذي تجري فيه الخيول أما إذا ظهر فرس يسبق الجميع فلا خيول أخرى قريبة منه تثير غباراً يمنع رؤيته بارزاً واضحاً. وهنا يقول الحق سبحانه: { وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً.. } [إبراهيم: 21]. ولقائل أن يسأل: وهل كانت هناك أشياء خافية عنه سبحانه ثم برزت؟ ونقول: إنه سبحانه مُنزَّه أن تَخْفى عنه خافية في الأرض أو السماء أو الكون كله، ولكن المقصود هنا أنهم يبرزون عند أنفسهم، ويرون وجودهم واضحاً أمام الحق سبحانه. وهم مِنْ قَبْل كانوا:يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَىٰ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً } [النساء: 108]. وكانوا قد ظَنُّوا أنهم قادرون على أن يخفوا عن ربهم ما كانوا يفعلون ويُبيِّتون ويمكرون ونجدهم يوم القيامة مفضوحين أمام خالقهم حُكْمهم في ذلك حُكْم كل الخَلْق. أو: برز كل واحد منهم أمام نفسه، ورأى نفسه أمام الله. ونعلم أنه سبحانه قد خلق الخَلْق على لونين لونٍ مقهور فيه الإنسان، ولا إرادةَ له: ولَوْنٍ مُخيّر فيه الإنسان، ونسبة ما منح فيه الإنسان الاختيار قليل، إذا ما قيس بما ليس له في اختيار. وقد شاء الحق سبحانه ذلك لأنه علم أزلاً أن الإنسان الذي تعوّد على أنْ يتمرّد على الله فهو يُوضِّح له: أنت قد أَلِفْتَ التمرد وقَوْل " لا " ، وقد تُجاهِر بالكفر، وتحارب من أجله، وتريد أن تخرج عن مرادات الحق فَإنْ كنت صادقاً في أن هذا الخروج ذاتيّ فيك فتمرّد على القهريات التي تنتابك. ويعلم الإنسان بالتجربة أنه غَيْرُ قادر على ذلك فلا الفقيرَ يستطيع أن يثرَى دون مشيئة الله والمريض لا يستطيع أن يشفى دون مشيئة الله والضعيف لا يستطيع أن يقوى ضد إرادة الله. وكل هذا يدل على أن ملكية الله لك لا تزال بالقهر فيك وسيأتي يوم يسلب منك الاختيار.

السابقالتالي
2 3 4