الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ }

وسبحانه يُعلمنا هنا أنه خلق السماوات والأرض بميزان الحقِّ فلا تأتي السماء وتنطبق على الأرض، فسبحانه القائل:وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى ٱلأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ... } [الحج: 65]. وأنت كلما سِرْتَ وجدتَ الشمس من فوقك، وهي مرفوعة بنظام هندسيّ دقيق. وهكذا أراد الحق سبحانه أن يُؤكِّد قضية كونية مُحسَّة مشهودة وبدأ بقوله: { أَلَمْ تَرَ.. } [إبراهيم: 19]. رغم أنه لا يوجد مع العَيْن أيْن ذلك أن الشمس واضحة أمام كُلِّ البشر، وهكذا نجد أن معنى { أَلَمْ تَرَ } هنا تكون بمعنى " ألم تعلم ". وجاء سبحانه بـ { أَلَمْ تَرَ } هنا لِيدلّنا على أن ما يُعلمنا الله به من حَقٍّ أصدق مما تُعلِمنا به العين فإذا قال سبحانه: { أَلَمْ تَرَ } فهي تعني: ألم تعلم عِلْماً مُؤكَّداً لأن عينيك ربما تَخُونك في الرؤيا، أو تخدعك بالإبصار، ولكن إذا قال لك الله { أَلَمْ تَرَ } فاعلم أنه علم موثوق به. وحين يلفتنا الحق سبحانه هنا إلى رؤية السماوات والأرض فكان لا بُدَّ لنا أن نعلم أنها لم تَكُنْ لِتُوجَد إلا بخَلْق الله لها وهو الذي أخبرنا أنها من خَلْقه ولم يدّعَها أحدٌ لنفسه وبذلك تثبت له قضية خَلْقها إلى أنْ يقولَ آخر أنه خلقها ولم يَقُلْ لنا أحدٌ ذلك أبداً. وسبق أن قال سبحانه:لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ.. } [غافر: 57]. والبشر كما نعلم لا يعيش فرد منهم مِثْلما تعيش السماء فالفرد يموت ويُولَد غيره وكُلُّ البشر يأتون ويذهبون، والشمس باقية، وكذلك الأرض. ومن عجيب الخَلْق الرحماني أن الله خلق كُلّ ذلك تسخيراً لأمر الإنسان فلا يشذّ كائن من تلك المُسخرات عن أمر الإنسان. وما طُلِب منك أيُّها الإنسان تكليفاً مُخيَّر فيه إنْ شئتَ آمنتَ، وإنْ شئْتَ كَفرتَ وإنْ شئتَ أطعتَ، وإن شئتَ عصيتَ. ولكن المخلوق المُسخَّر لخدمتك ليست له هذه المشيئة. وهو سبحانه الحق القائل:إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [الأحزاب: 72]. وقد أعلمنا هذا القولُ الكريم بأن الرحمانية سبقتْ لنا نحن البشر من قبل خَلْقنا، وأقدمتنا رحمانية الله على وجود مُهيَّأ لنا. ومن العجيب أن الكونَ المخلوق لنا استبقاءً لحياتنا واستبقاءً لنوعنا يتركز في أشياء لا دَخْل لنا فيها، ولا تتغير أبداً وهي الأشياء العليا كالشمس والقمر والأرض. وهناك أشياء أخرى يكون التغيير فيها على نوعين: قسم يتغير ويأتي بدلاً منه شيء جديد، كالنبات الذي يذهب ويصير حصيداً، وكذلك الحيوانات التي نأكلها أو التي تموت. وهناك خَلْق يتغير مع إبقاء عناصره، وإنْ تغيّرتْ مادته، كالجمادات التي نراها - الجبال والأرض وعناصرها - ونكتشف منها كُلَّ يوم جديداً.

السابقالتالي
2 3