الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ ٱلْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }

والاستعجال أن تطلب الشيء قبل زمنه، وتقصير الزمن عن الغاية، فأنت حين تريد غاية ما فأنت تحتاج لزمن يختلف من غاية لأخرى، وحين تتعجل غايةً، فأنت تريد أنْ تصل إليها قبل زمنها. وكل اختيار للتعجُّل أو الاستبطاء له مميزاته وعيوبه، فهل الاستعجال هنا لمصلحة أمر مطلوب؟ إنهم هنا يستعجلون بالسيئة قبل الحسنة، وهذا دليل على اختلال وخُلْف موازين تفكيرهم، وقد سبق لهم أنْ قالوا:لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ ٱلأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً.. } [الإسراء: 90-92]. وهكذا نجد هؤلاء الكافرين وهم يستعجلون بالسيئة قبل الحسنة، كما استعجلوا أنْ تنزل عليهم الحجارة، وهم لا يعرفون أنْ كل عذاب له مدة، وله ميعاد موقوت. ولم يفكروا في أنْ يقولوا: " اللهم إنْ كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه ". بل إنهم قالوا:ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال: 32]. وهكذا أوضح لنا الحق سبحانه ما وصلوا إليه من خَلل في نفوسهم وفسادها ذلك أن مقاييسهم انتهت إلى الكفر، وليس أدلّ على فساد المقاييس إلا استعجالهم للسيئة قبل الحسنة لأن العاقل حين يُخيَّر بين أمرين فهو يستعجل الحسنة لأنها تنفع، ويستبعد السيئة. وما دامت نفوس هؤلاء الكافرين فاسدة وما دامت مقاييسهم مُخْتلة، فلا بد أن السبب في ذلك هو الكفر. إذن: فاستعجال السيئة قبل الحسنة بالنسبة للشخص أو للجماعة دليلُ حُمْق الاختيار في البدائل فلو أنهم أرادوا الاستعجال الحقيقي للنافع لهم لاستعجلوا الحسنة ولم يستعجلوا السيئة. وهنا يقول الحق سبحانه: { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ ٱلْمَثُلاَتُ.. } [الرعد: 6]. فلماذا يستعجلون العذاب؟ ألم ينظروا ما الذي حاق بالذين كذَّبوا الرسل من قبلهم؟ وحين يقول الرسول: احذروا أن يصيبكم عذاب، أو احذروا أنْ كذا وكذا فهل في ذلك كذب؟ ولماذا لم ينظروا للعِبَر التي حدثتْ عَبْر التاريخ للأقوام التي كذبتْ الرسل من قبلهم؟ و " المَثُلات " جمع " مُثْلة " وفي قول آخر " مَثُلَة ". والحق سبحانه يقول لنا:وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ.. } [النحل: 126]. ويقول أيضاً:وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا.. } [الشورى: 40]. وهكذا تكون " مَثُلات " من المثل أي: أن تكون العقوبة مُمَاثلة للفعل. وقول الحق سبحانه: { وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ ٱلْمَثُلاَتُ.. } [الرعد: 6]. يعني: أنه سبحانه سبق وأنزل العذاب بالمثيل لهم من الأمم السابقة التي كذبتْ الرسل إما بالإبادة إن كان ميئوساً من إيمانهم، وإما بالقهر والنصر عليهم.

السابقالتالي
2