الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَٱللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ }

و { يَرَوْاْ } هنا بمعنى " يعلموا " ، ولم يَقُلْ ذلك لأن العلم قد يكون عِلْماً بغيب، ولكن " يروا " تعني أنهم قد علموا ما جاء بالآية عِلْم مشهد ورؤية واضحة، وليس مع العين أَيْن. وإذا جاء قول الحق سبحانه ليخبرنا بأمر حدث في الماضي أو سيحدث في المستقبل ووجدنا فيه فعل الرؤية فهذا يعني أننا يجب أن نؤمن به إيمان مَشْهدٍ، لأن قوله سبحانه أوثق من الرؤية، وعلمه أوثق من عينيك. وسبق أن قال الحق سبحانه لرسوله:أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ } [الفيل: 1]. ونعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد وُلِد في عام الفيل، ولا يمكن أن يكون قد رأى ما حدث لأصحاب الفيل، ولكنه صَدَّق ما جاء به القول الحق وكأنه رؤيا مَشْهدية. وقال الحق سبحانه:أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً.. } [الفرقان: 45]. وحين يُعبِّر القرآن عن أمر غيبي يأتي بفعل " يرى " مثل قوله الحق:وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ.. } [السجدة: 12]. وحين يتكلم القرآن عن أمر معاصر يقول:أَفَلاَ يَرَوْنَ.. } [الأنبياء: 44]. وهنا يقول الحق سبحانه: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا.. } [الرعد: 41]. وهذا قول للحاضر المعاصر لهم. وتعريف الأرض هنا يجعلها مجهولة، لأننا حين نرغب في أن نُعرِّف الأرض قد يتجه الفكر إلى الأرض التي نقف عليها وبالمعنى الأوسع يتجه الفكر إلى الكرة الأرضية التي يعيش عليها كل البشر. وقد تُنسَبُ الأرض إلى بقعة خاصة وقع فيها حَدَثٌ ما مثل قول الحق سبحانه عن قارون:فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ.. } [القصص: 81]. ويقول الحق سبحانه عن الأرض كلها:وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ.. } [النور: 55]. وبطبيعة الحال هم لن يأخذوا كل الأرض، ولكن ستكون لهم السيطرة عليها. وسبحانه يقول أيضاً:فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِيۤ أَرْضِ ٱللَّهِ.. } [الأعراف: 73]. وهكذا نفهم أن كلمة " الأرض " تطلق على بُقعة لها حَدث خاص، أما إذا أُطلقتْ فهي تعني كل الأرض، مثل قول الحق سبحانه:وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } [الرحمن: 10]. ومثل قوله تعالى لبني إسرائيل:وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱسْكُنُواْ ٱلأَرْضَ.. } [الإسراء: 104]. مع أنه قد قال لهم في آية أخرى:ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ.. } [المائدة: 21]. فبعد أنْ حَدَّد لهم الأرض بموقع معين عاد فأطلق الكلمة، ليدل على أنه قد شاء ألاَّ يكون لهم وَطَن، وأنْ يظلُّوا مُبعْثرين، ذلك أنهم رفضوا دخول الموقع الذي سبق وأنْ حَدَّده لهم وقالوا:إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا.. } [المائدة: 24]. ولذلك قال الحق سبحانه في موقع آخر:وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً.. } [الأعراف: 168]. أي: جعلنا كل قطعة بما تحويه من تماسك متفرقة عن القطعة الأخرى، وهذا هو حال اليهود في العالم حيث يُوجَدُونَ في أحياء خاصة بكل بلد من بلاد العالم فلم يذوبوا في مجتمع ما.

السابقالتالي
2 3 4