الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا ٱلْحِسَابُ }

هذه الآية تُحدِّد مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم في أن يُبلِّغ منهج الله، فمَنْ شاء فليؤمن ومَنْ شاء فليكفر، إلا أن قول الحق سبحانه في رسوله صلى الله عليه وسلم:لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة: 128]. جعله هذا القول متعلقاً بهداية قومه جميعاً، وكان يرجو أن يكون الكل مهتدياً ولذلك يقول الحق سبحانه لرسوله في موقع آخر:فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } [الكهف: 6]. أي: أنك لستَ مسئولاً عن إيمانهم، وعليك ألاَّ تحزن إنْ لم ينضمُّوا إلى الموكب الإيماني، وكُلُّ ما عليك أن تدعوهم وتُبلِّغهم ضرورة الإيمان والحق سبحانه هو الذي سوف يحاسبهم إما في الدنيا بالمحو والإذهاب، أو في الآخرة بأن يَلْقَوْا عذاب النار. وحين يقول الحق سبحانه: { وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا ٱلْحِسَابُ } [الرعد: 40]. فنحن نعلم أن كل دعوة من دعوات الخير تكبُر يوماً بعد يوم ودعوات الشر تبهت يوماً بعد يوم. ومَنْ يدعو إلى الخير يُحِب ويتشوق أنْ يرى ثمار دعوته وقد أينعتْ، ولكن الأمر في بعض دعوات الخير قد يحتاج وَقْتاً يفوق عمر الداعي. ولذلك يقول الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: { وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ.. } [الرعد: 40]. أي: اغرس الدعوة، ودَعْ مَنْ يقطف الثمرة إلى ما بعد ذلك، وأنت حين تتفرَّغ للغَرْس فقط ستجد الخير والثمار تأتي حين يشاء الله سواء شاء ذلك إبَّان حياتك أو من بعد موتك. وأنت إذا نظرتَ إلى الدعوات التي تستقبلها الحياة تجد أن لكل دعوة أنصاراً أو مؤيدين، وأن القائمين على تلك الدعوات قد تعجَّلوا الثمرة مع أنهم لو تمهَّلوا ليقطفها مَنْ يأتي بعدهم لنَجحتْ تلك الدعوات. ونحن في الريف نرى الفلاح يغرس ومن خلال غَرْسه نعرف مراداته، هل يعمل لنفسه، أو يعمل من أجل من يأتي بعده؟ فَمنْ يغرس قمحاً يحصد بسرعة تفوق سرعة مَنْ يغرس نخلة أو شجرة من المانجو، حيث لا تثمر النخلة أو شجرة المانجو إلا بعد سنين طويلة، تبلغ سبع سنوات في بعض الأحيان، وهذا يزرع ليؤدي لِمَنْ يجئ ما أداه له مَنْ ذهبَ. ونحن نأكل من تَمْرٍ زَرَعه لنا غيرنا مِمَّنْ ذهبوا، ولكنهم فكّروا فيمَنْ سيأتي من بعدهم، ومَنْ يفعل ذلك لا بُدَّ وأن يكون عنده سِعَة في الأرض التي يزرعها لأن مَنْ لا يملك سِعَة من الأرض فهو يفكر فقط فيمَنْ يعول وفي نفسه فقط لذلك يزرع على قَدْر ما يمكن أن تعطيه الأرض الآن. أما مَنْ يملك سِعَة من الأرض وسِعَة في النفس فهو مَنْ وضع في قلبه مسئولية الاهتمام بمَنْ سيأتون بعده.

السابقالتالي
2 3 4 5 6