الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَىٰ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّعُقْبَى ٱلْكَافِرِينَ ٱلنَّارُ }

والمصدر الأساسي الذي وعدَ المتقين بالجنة هنا هو الله، وقد بلَّغ عنه الرسل - عليهم السلام - هذا الوعد، وتَلاهُمُ العلماء المُبلِّغون عن الرسل. وأنت حين تنظر إلى فعل يشيع بين عدد من المصادر، تستطيع أن تبحث عن المصدر الأساسي، والمَثَل هو قول الحق سبحانه:ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا.. } [الزمر: 42]. ويقول في موقع آخر من القرآن:قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ.. } [السجدة: 11]. وهكذا تكون التَّوْفية قد آلتْ إلى الله وآلتْ إلى مَلَكِ الموت، وقد أخذ مَلَكَ الموْت مسئولية التَّوفية من إسناد الحق له تلك المهمة ويكون نسبتها لِملَكِ الموت هو نوع من إيضاح الطرف الذي يُوكِّل له الحق سبحانه تنفيذ المهمة. ومرة يأتي الحق سبحانه بالمصدر الأصلي الذي يُصدِر الأمر لِملَكِ الموْت بمباشرة مهمته. وهنا في الآية الكريمة نجد قول الحق سبحانه: { وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ.. } [الرعد: 35]. وهي مَبْنية لِمَا لم يُسَمّ فاعله فالوعد منه سبحانه. " ونعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يَعِد أيضاً، فها نحن قد جاء إلينا خبر بيعة العقبة حين أخذ البيعة من الأنصار، وقالوا له: خُذْ لنفسك، فأخذ لنفسه ما أراد، ثم قالوا له: وماذا نأخذ نحن إنْ أدَّيْنَا هذا؟ فقال لهم: " لكم الجنة ". وقد قال صلى الله عليه وسلم ذلك لأن العمل الذي فعلوه لا يكفيه أجراً إلا الجنة، ومن المعقول أن أيَّ واحد من الذين حضروا العقبة قد يتعرض للموت من بعد معاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو أنه وعدهم بِمَا في الدنيا من متاع قد يأخذه البعض فيما بعد فالذي يموت قبل هذا لا بُدَّ أن يدرك شيئاً مِمّا وعد الرسول مَنْ عاهدوه ولذلك أعطاهم ما لا ينفد، وهو الوَعْد بالجنة. والحق سبحانه هنا - في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها - يقول: { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ.. } [الرعد: 35]. أي: أنه يضرب لنا المَثَل فقط لأن الألفاظ التي نتخاطَبُ بها نحن قد وُضِعتْ لِمَعان نعرفها وإذا كانت في الجنة أشياء لم تَرَها عَيْنٌ ولم تسمعها أُذنٌ، ولم تخطر على بال بشر فمنَ المُمْكِن أن نقول إنه لا توجد ألفاظ عندنا تؤدي معنى ما هناك، فيضرب الله الأمثال لنا بما نراه من الملذَّات ولكن يأخذ منها المُكدِّرات والمُعكِّرات. وهكذا نعرف أن هناك فارقاً بين " مثل الجنة " وبين " الجنة " ، فالمَثَل يعطيني صورة أسمعها عن واقع لا أعلمه لأن معنى التمثيل أن تُلحِق مجهولاً بمعلوم لِتأخذَ منه الحكم. مثلما تقول لصديق: أتعرف فلاناً فيقول لك: " لا ". فتقول له: " إنه يشبه فلاناً الذي تعرفه ".

السابقالتالي
2 3 4 5