الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ }

ومعنى الاطمئنان سكونُ القلب واستقراره وأُنْسُه إلى عقيدة لا تطفو إلى العقل ليناقشها من جديد. ونعلم أن الإنسانَ له حواسٌّ إدراكية يستقبل بها المُحسَّات وله عقل يأخذ هذه الأشياء ويهضمها بعد إدراكها ويفحصها جيداً، ويتلمس مدى صِدْقها أو كَذِبها ويستخرج من كل ذلك قضية واضحة يُبقِيها في قلبه لتصبح عقيدة، لأنها وصلت إلى مرحلة الوجدان المحب لاختيار المحبوب. وهكذا تمرُّ العقيدة بعدة مراحلَ فهي أولاً إدراك حِسِّي ثم مرحلة التفكّر العقلي ثم مرحلة الاستجلاء للحقيقة ثم الاستقرار في القلب لتصبح عقيدة. ولذلك يقول سبحانه: { وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ.. } [الرعد: 28]. فاطمئنان القلب هو النتيجة للإيمان بالعقيدة وقد يمرُّ على القلب بعضٌ من الأغيار التي تزلزل الإيمان، ونقول لمن تمرُّ به تلك الهواجس من الأغيار: أنت لم تُعْطِ الربوبية حقَّها لأنك أنت المَلُوم في أيِّ شيء يَنَالُكَ. فلو أحسنتَ استقبال القدر فيما يمرُّ بك من أحداث، لَعلِمْتَ تقصيرك فيما لك فيه دَخْل بأيِّ حادث وقع عليك نتيجة لعملك، أما مَا وقع عليك ولا دَخْل لك فيه فهذا من أمر القَدَر الذي أراده الحقُّ لك لحكمة قد لا تعلمها، وهي خَيْرٌ لك. إذن: استقبال القدر إن كان من خارج النفس فهو لك، وإن كان من داخل النفس فهو عليك. ولو قُمْتَ بإحصاء ما ينفعك من وقوع القدر عليك لَوجدتَّه أكثرَ بكثير مما سَلَبه منك. والمَثَل هو الشاب الذي استذكر دروسه واستعدَّ للامتحان لكن مرضاً داهمه قبل الامتحان ومنعه من أدائه. هذا الشاب فعلَ ما عليه وشاءَ الله أن ينزل عليه هذا القدر لحكمة ما كأنْ يمنع عنه حسَد جيرانه أو حسدَ مَنْ يكرهون أًمه أو أباه، أو يحميه من الغرور والفتنة في أنه مُعتمِد على الأسباب لا على المُسبِّب. أو تأخير مرادك أمام مطلوب الله يكون خيراً. وهكذا فَعَلى الإنسان المؤمن أن يكون موصولاً بالمُسبِّب الأعلى، وأنْ يتوكل عليه سبحانه وحده، وأن يعلم أنْ التوكل على الله يعني أن تعمل الجوارح، وأنْ تتوكَّل القلوب لأن التوكل عملٌ قلبي، وليس عملَ القوالب. ولينتبه كُلٌّ مِنّا إلى أن الله قد يُغيب الأسباب كي لا نغتر بها، وبذلك يعتدل إيمانك به ويعتدل إيمان غيرك. وقد ترى شاباً ذكياً قادراً على الاستيعاب، لكنه لا ينال المجموع المناسب للكلية التي كان يرغبها فيسجد لله شكراً مُتقبِّلاً قضاء الله وقَدَره فَيُوفِّقه الله إلى كلية أخرى وينبغ فيها ليكون أحدَ البارزين في المجال الجديد. ولهذا يقول الحق سبحانه:وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 216]. وهكذا نجد أن مَنْ يقبل قَدر الله فيه، ويذكر أن له رباً فوق كل الأسباب فالاطمئنان يغمرُ قلبه أمام أيِّ حدَثٍ مهْمَا كان.

السابقالتالي
2 3 4