الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ }

ونجد هذه الآية معطوفة على ما سبقها من صفات أولي الألباب الذين يتذكَّرون ويعرفون مَواطن الحق بعقولهم اهتداءً بالدليل الذين يُوفون بالعهد الإيماني بمجرد إيمانهم بالله في كُلِّيات العقيدة الوحدانية، ومُقْتضيات التشريع الذي تأتي به تلك العقيدة. ولذلك جعلها سبحانه صفقة أوضحها في قوله تعالى:إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً.. } [التوبة: 111]. وهي صفقة إيجاب وقَبُول، والعهد إيجاب وقبول وهو ميثاق مُؤكَّد بالأدلة الفِطْرية أولاً، والأدلة العقلية ثانياً. وهُمْ في هذه الآية مَنْ صبروا ابتغاءَ وجه ربهم، والصبر هو تحمُّل متاعب تطرأ على النفس الإنسانية لتخريجها عن وقار استقامتها ونعيمها وسعادتها، وكل ما يُخرِج النفس الإنسانية عن صياغة الانسجام في النفس يحتاج صبراً. والصبر يحتاج صابراً هو الإنسان المؤمن، ويحتاج مَصْبوراً عليه والمَصْبور عليه في الأحداث قد يكون في ذات النفس كأنْ يصبر الإنسان على مشقَّة التكليف الذي يقول " افعل " و " لا تفعل ". فالتكليف يأمرك بترْكِ ما تحب، وأنْ تنفذ بعض ما يصعب عليك، وأن تمتثل بالابتعاد عما ينهاك عنه، وكُلُّ هذا يقتضي مُجَاهدة من النفس، والصبر الذاتي على مشَاقِّ التكليف. ولذلك يقول الحق سبحانه عن الصلاة مثلاً:وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَاشِعِينَ } [البقرة: 45]. وهذا صَبْر الذَّات على الذَّات. ولكن هناك صَبْر آخر صبر منك على شيء يقع من غيرك ويُخرِجك هذا الشيء عن استقامة نفسك وسعادتها. وهو ينقسم إلى قسمين: قسم تجد فيه غريماً لك وقسم لا تجد فيه غريماً لك. فالمرض الذي يُخرِج الإنسان عن حَيِّز الاستقامة الصِّحية ويُسبِّب لك الألم ليس لك فيه غريم لكنك تجد الغريم حين يعتدي عليك إنسانٌ بالضرب مثلاً ويكون هذا الذي يعتدي عليك هو الغريم لك. وكل صبر له طاقة إيمانية تحتمله فالذي يَقْدر على شيء ليس له فيه غريم يكون صَبْره معقولاً بعض الشيء لأنه لا يوجد له غريم يهيج مشاعره. أما صبر الإنسان على أَلمٍ أوقعه به مَنْ يراه أمامه فهذا يحتاج إلى قوة ضَبْط كبيرة كي لا يهيج الإنسان ويُفكِّر في الانتقام. ولذلك تجد الحق يفصل بين الأمرين يفصل بين شيء أصابك ولا تجد لك غريماً فيه، وشيء أصابك ولك من مثلك غريمٌ فيه. ويقول سبحانه عن الصبر الذي ليس لك غريم فيه:وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [لقمان: 17]. ويقول عن الصبر الذي لك فيه غريم، ويحتاج إلى كَظْم الغيظ، وضبط الغضب:وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [الشورى: 43]. وحينما يريد الحق سبحانه منك أن تصبر فهو لا يطلب ذلك منك وحدك ولكن يطلب من المقابلين لك جميعاً أنْ يصبروا على إيذائك لهم فكأنه طلب منك أنْ تصبر على الإيذاء الواقع من الغير عليك وأنت فَرْد واحد.

السابقالتالي
2 3 4 5 6