الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ }

وهو سبحانه يُنزِل الماء من جهة العُلو وهو السماء، ونعلم أن الماء يتبخَّر من البحار والأنهار والأرض التي تتفجّر فيها العيون ليتجمع كسحاب ثم يتراكم السحاب بعضُه على بعض ويمرُّ بمنطقة باردة فيتساقط المطر. ويقول الحق سبحانه: { أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا.. } [الرعد: 17]. والوادي هو المُنْخفض بين الجبلين وساعةَ ينزل المطر على الجبال فهو يسيل على الأودية وكل وَادٍ يستوعب من المياه على اتساعه. ولنا أن نلحظ أن حكمة الله شاءتْ ذلك كَيْلا يتحول الماء إلى طوفان، فلو زاد الماء في تلك الأودية لَغرقتْ نتيجة ذلك القرى، ولَخرِبت الزراعات، وتهدمتْ البيوت. والمَثَل على ذلك هو فيضان النيل حين كان يأتي مناسباً في الكمية لحجم المَجْرى وكان مثل هذا القَدْر من الفيضان هو الذي يُسعد أهل مصر أما إذا زاد فهو يُمثِّل خطراً يَدْهَم القرى ويخربها. وهكذا نجد أن من رحمة الحق سبحانه أن الماء يسيل من السماء مطراً على قَدْر اتساع الأودية اللهم إلا إذا شاء غير ذلك. والحق سبحانه هنا يريد أنْ يضرب مثلاً على ما ينفع الناس لذلك جاء بجزئية نزول الماء على قَدْر اتساع الأودية. ومَنْ رأى مشهد نزول المطر على هذا القَدْر يمكنه أنْ يلحظ أن نزول السَّيْل إنما يكنس كل القَشِّ والقاذورات فتصنع تلك الزوائد رَغْوةً على سطح الماء الذي يجري في النهر، ثم يندفع الماء إلى المَجْرى لِيُزيح تلك الرَّغاوى جانباً ليسير الماء من بعد ذلك صَافِياً رَقْراقاً. { أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً.. } [الرعد: 17]. وهذا المَثَل يدركه أهل البادية لأنها صحراء وجبال ووديان فماذا عن مَثَلٍ يناسب أهل الحضر؟ ويأتي الحق سبحانه بهذا المثل المناسب لهم فيقول: { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ.. } [الرعد: 17]. وأنت حين تذهب إلى موقع عمل الحداد أو صائغ الذهب والفضة تجده يُوقِد النار ليتحول المعدن إلى سائل مَصْهور ويطفو فوق هذا السائل الزَّبَد وهو الأشياء التي دخلت إلى المعدن، وليست منه في الأصل ويبقى المعدن صافياً من بعد ذلك. والصَّائغ يضع الذهب في النار لِيُخلِّصه من الشوائب ثم يضيف إليه من المواد ما يُقوِّي صلابته أو ينقله من حالة النقاء إلى درجة أقل نقاءً، وحالة النقاء في الذهب هي ما نطلق عليه " عيار 24 " ، والأقل درجة هو الذهب من " عيار 21 " ، والأقل من ذلك هو الذهب من " عيار 18 ". والذهب الخالص النقاء يكون ليِّناً لذلك يُضيفون إليه ما يزيد من صلابته، ويصنع الصائغ من هذا الذهب الحُلي.

السابقالتالي
2