الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَٱلْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ ٱلصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَٰدِلُونَ فِي ٱللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ ٱلْمِحَالِ }

وسبق أن جاء الحق سبحانه بذكر البرق وهو ضوئيّ وهنا يأتي بالرعد وهو صوتيّ، ونحن نعرف أن سرعة الضوء أسرع من سرعة الصوت ولذلك جاء بالبرق أولاً، ثم جاء بالرعد من بعد ذلك. وحين يسمع أحدُ العامةِ واحداً لا يعجبه كلامه يقول له " سمعت الرعد " أي: يطلب له أنْ يسمع الصوت المزعج الذي يُتعِب مَنْ يسمعه. ولنا أن ننتبه أن المُزْعِجات في الكون إذا ما ذكرت مُسبِّحة لربها فلا تنزعج منها أبداً، ولا تظن أنها نغمة نَشّازٌ في الكون، بل هي نغمة تمتزج ببقية أنغام الكون. ونحن نفهم أن التسبيح للعاقل القادر على الكلام، ولكن هذا عند الإنسان لأن الذي خلق الكائنات كلها علَّمها كيف تتفاهم، مثلما عَلَّم الإنسان كيف يتفاهم مع بني جنسه وكذلك عَلَّم كل جنس لغته. وكلنا نقرأ في القرآن ماذا قالت النملة حين رأتْ جنودَ سليمان:ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [النمل: 18]. وقد سمعها سليمان عليه السلام لأن الله علَّمه مَنْطِق تلك اللغات، ونحن نعلم أن الحق سبحانه عَلَّم سليمان منطق الطير، قال تعالى:عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ.. } [النمل: 16]. ألم يتخاطب سليمان عليه السلام مع الهدهد وتكلَّم معه؟ بعد أن فَكَّ سليمان بتعليم الله له شَفْرة حديث الهدهد وقال الهدهد لسليمان:أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ ٱمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } [النمل: 22-23]. إذن: فكُلُّ شيء له لغة يتفاهم بها لقضاء مصالحه، ومَنْ يفيض الله عليه من أسرار خَلْقه يُسْمِعه هذه اللغات، وقد فاض الحقُّ سبحانه على سليمان بذلك، ففهم لغةَ الطير وتكلَّم بها مع الهدهد وقال له:ٱذْهَب بِّكِتَابِي هَـٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَٱنْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ } [النمل: 28]. وهكذا عرفنا بقصة سليمان وبلقيس وكيف فَهم سليمان مَنْطِق الطير وتكلَّم بها مع الهدهد؟ وهكذا عَلِمنا كيف يتعلَّم الإنسان لغاتٍ متعددةً فحين يذهب إنسان إلى مجتمع آخر ويبقى به مُدَّة فهو يتعلم لغة ذلك المجتمع، ويمكن للإنسان أن يتعلم أكثر من لغة. وقد عرض الحق سبحانه مسألة وجود لغاتٍ للكائنات في قصة النملة وقصة الهدهد مع سليمان وهما من المرتبة التالية للبشر، ويعرض الحق سبحانه أيضاً قضية وجود لغة لكل كائن من مخلوقاته في قوله:وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَٱلطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ } [الأنبياء: 79]. وكأن الجبال تفهم تسبيح داود وتُردِّده من خَلْفه. أيضاً يقول الحق سبحانه:إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ * وَٱلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } [ص: 18-19]. وكذلك يخاطب الله الأرض والسماء، فيقول:فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً.. } [فصلت: 11]. فيمتثلان لأمره:قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ }

السابقالتالي
2 3 4