الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ ٱجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ }

وهذا القول تأكيد لثقة يوسف أن القادم في هذا البلد يحتاج لحكمة إدارة، لا تبعثر ما سوف يأتي في سنين الخصب لتضمن الاطمئنان في سنين الشدة، وتلك مهمة تتطلب الحفظ والعلم. وقد تقدم ما يثبت أن هاتين الصفتين يتحلَّى بهما يوسف عليه السلام. وقد يقول قائل: أليس في قول يوسف شبهة طلب الولاية؟ والقاعدة تقول: إن طالب الولاية لا يولَّى. فيوسف عليه السلام لم يطلب ولاية، وإنما طلب الإصلاح ليتخذ من إصلاحه سبيلاً لدعوته وتحقيقاً لرسالته، حيث أنه كان آمراً فيستجاب، ولم يكن مأموراً للإيجاب حيث أنه كان واثقاً بالإيمان ومؤمناً بوثوق. وقد تأتي ظروف لا تحتمل التجربة مع الناس، فمن يثق بنفسه أنه قادر على القيام بالمهمة فله أن يعرض نفسه. ومثال ذلك: لنفترض أن قوماً قد ركبوا سفينة ثم هاجتْ الرياح وهبَّتْ العاصفة وتعقَّدت الأمور وارتبك القبطان، وجاءه مَنْ يخبره أنه قادر على أن يحل له هذا الأمر، ويُحسن إدارة قيادة المركب، وسبق للقبطان أن علم عنه ذلك. هنا يجب على القبطان أن يسمح لهذا الخبير بقيادة السفينة وبعد أن ينتهي الموقف الصعب على القبطان أن يُوجِّه الشكر لهذا الخبير ويعود لقيادة سفينته. إذن: فمن حقِّ الإنسان أن يطلب الولاية إذا تعيَّن عليه ذلك، بأن يرى أمراً يتعرض له غير ذي خبرة يُفسد هذا الأمر، وهو يعلم وَجْه الصلاح فيه. وهنا يكون التدخل فرض عين من أجل إنقاذ المجتمع. وفي مثل هذه الحالة نجد مَنْ طلب الولاية وهو يملك شجاعتين: الشجاعة الأولى: أنه طلب الولاية لنفسه لثقته في إنجاح المهمة. والشجاعة الثانية: أنه حجب من ليس له خبرة أن يتولى منصباً لا يعلم إدارته، وبهذا يصير الباطل متصرفاً. وبذلك يُظهر وَجْه الحق ويُزيل سيطرة الباطل. ولذلك نجد يوسف عليه السلام يقول للملك: { ٱجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [يوسف: 55]. والخزائن يوجد فيها ما يُمكّن المسيطر عليها من قيادة الاقتصاد. وقالوا: إن يوسف طلب من الملك أن يجعله على خزائن الأرض، لوضع سياسة اقتصادية يواجهون بها سبع سنين من الجَدْب، وتلك مسألة تتطلب حكمة وحِفْظاً وعِلْماً. وكان يوسف عليه السلام يأخذ من كل راغبٍ في المَيْرة الأثمان من ذهب وفضة، ومَنْ لا يملك ذهباً وفضة كان يُحضر الجواهر من الأحجار الكريمة أو يأتي بالدواب ليأخذ مقابلها طعاماً. ومَنْ لا يملك كان يُحضر بعضاً من أبنائه للاسترقاق، أي: يقول رَبُّ الأسرة الفقير: خُذْ هذا الولد ليكون عبداً لقاء أن آخذ طعاماً لبقية أفراد الأسرة. وكان يوسف عليه السلام يُحسِن إدارة الأمر في سنوات الجَدْب ليشُد كل إنسان الحزام على البطن، فلا يأكل الواحد في سبعة أمعاء بل يأكل في مِعىً واحد، كما يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف:

السابقالتالي
2