الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّيۤ أَرْجِعُ إِلَى ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ }

وقوله: { أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ.. } [يوسف: 46]. يدل على أنه قد جرَّبه في مسائل متعددة، وثبت صدقه. و " صِدِّيق " لا يقتصر معناها على أنه صادق في كل أقواله وصادق في كل أفعاله، وصادق في كل أحواله، ولكن معناها يتسع لِيدُلَّنا على أن الصدق ملازم له دائماً في القول وفي الفعل. أما في الأقوال فصدقه واضح لأنه يقول القضية الكلامية ولها واقع من الخارج يدلُّ عليها. وأما صدق الأفعال فهو ألاَّ تُجرِّب عليه كلاماً، ثم يأتي فعله مخالفاً لهذا الكلام وهذا هو مَنْ نطلق عليه " صِدِّيق ". ونحن نعلم أن حركات الإنسان في الحياة تنقسم قسمين إما قول وإما فعل والقول أداته اللسان، والفعل أداته كل الجوارح. إذن: فهناك قول، وهناك فعل وكلاهما عمل فالقول عمل والرؤية بالعين عمل والسمع بالأذن عمل، والمسُّ باليد عمل. لكن القول اختصَّ باللسان، وأخذتْ بقية الجوارح الفعل لأن الفعل هو الوسيلة الإعلامية بين متكلم وبين مخاطب، وأخذ شق الفعل. وهكذا نعلم أن الفعل قسمان: إما قول وإما فعل. والصِّدِّيق هو الذي يصدُق في قوله، بأن تطابق النسبة الكلامية الواقع، وصادق في فعله بألاَّ يقول ما لا يفعل. ولذلك قال الحق سبحانه:كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [الصف: 3]. ونعلم أن ساقي الملك كانت له مع يوسف تجربتان: التجربة الأولى: تجربة مُعَايشته في السجن هو وزميله الخباز، وقولهما له:إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [يوسف: 36]. وكان قولهما هذا هو حيثية سؤالهم له أن يُؤوِّل لهما الرؤييين:قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ ٱلآخَرُ إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [يوسف: 36]. والتجربة الثانية: هي مجيء واقع حركة الحياة بعد ذلك مطابقاً لتأويله للرؤييين. ولذلك يقول له هنا: { يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّيۤ أَرْجِعُ إِلَى ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ } [يوسف: 46]. أي: أفتِنَا في رُؤيا سبع بقرات سِمَان يأكلهن سبعُ بقرات شديدة الهُزَال، وسبع سُنْبلات خُضْر، وسبع أُخر يابسات، لَعلِّي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون. وقوله: { أَفْتِنَا.. } [يوسف: 46]. يوضح أنه لا يسأل عن رؤيا تخصُّه بل هي تخص رائياً لم يُحدده، وإنْ كنا قد عرفنا أنها رُؤيا الملك. وقوله: { لَّعَلِّيۤ أَرْجِعُ إِلَى ٱلنَّاسِ.. } [يوسف: 46]. هو تحرُّز واحتياط في قضية لا يجزم بها وهو احتياط في واقع قدر الله مع الإنسان، والسائل قد أخذ أسلوب الاحتياط ليخرجه من أن يكون كاذباً، فهو يعلم أن أمر عودته ليس في يده ولذلك يُعلمنا الله:وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَداً }

السابقالتالي
2