الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا ٱلآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ }

وهكذا رجع يوسف عليه السلام إلى مطلب السجينين، وفسَّر رؤيا مَنْ يسقي الخمر بأنه سيخرج من السجن ويعود ليسقي سيده، وأما الآخر فلسوف يُصلَبُ وتأكل الطير من رأسه، لأن رمزية الرؤيا تقول: إن الطير سيأكل من رأسه وهذا يعني أن رأسه ستكون طعاماً للطير. وتأويل الرؤيا علم يقذفه الله في قلوب مَنْ علَّمهم تأويل الأحاديث، وهي قدرة على فَكِّ شَفْرة الحُلْم، ويعطيها الله لمَنْ يشاء من عباده. وقد قال يوسف لمَنْ قال:إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً.. } [يوسف: 36]. أنه سوف ينال العفو ما أظهرته الرؤيا التي قالها، وأما الآخر فسيأكل من رأسه الطير. أي: سيُصلب كما أوحتْ بذلك رموز الرُّؤيا. ونلحظ أن يوسف عليه السلام قد انشغل بالحكم الذي أوضحته الرؤييان عن الاثنين صاحبي الرؤييين. وهذا دليل على أن القاضي يجب أن يكون ذهنه مُنصبًّا على الحكم لا على المحكوم عليه، فقد سمع يوسف منهما وهو لا يعرف مَنْ سينال البراءة، ومَنْ الذي سوف يُعاقب. فنزع يوسف ذاته من الأمر، ولم يسمح لنفسه بدخول الهوى إلى قلبه لأن الهوى يُلوِّن الحكم، ولا أحد بقادر على أن يسيطر على عاطفته، ولا بد للقاضي لحظة أن يصدر حكماً أن يتجرد تماماً من الهوى والذاتيات. ويُعلِّمنا الحق سبحانه ذلك حين أنزل لنا في قرآنه قصة سيدنا داود عليه السلام:وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ ٱلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَٱحْكُمْ بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَٱهْدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي ٱلْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِيۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } [ص: 21-24]. وكان من ذكر عدد نِعَاج أخيه أنه إنما أراد أن يستميل داود عليه السلام لِصفِّه وكان يريد أن يُصوِّر الظلم الذي وقع عليه، وحكم داود بأن مَنْ أخذ النعجة ليضمها لنعاجه هو الذي ظلم وشعر داود أنه لم يُوفَّق في الحكم لأنه ذكر في حيثية الحكم نعاج الذي أراد أن يأخذ نعجة أخيه. فالأخذ وحده كان هو المبرر عند داود لإدانة الذي أراد الاستيلاء على ما ليس من حقه ولذلك اعتبر أن هذا الأمر كله فتنة لم يُوفَّق فيها، واستغفر الله بالركوع والتوبة. وقد كان يوسف عليه السلام حكيماً حين قال تأويل الرُّؤيا متجرداً من الذاتية، وأنهى التأويل بالقول: { قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } [يوسف: 41]. أي: أنه لا مجال للرجوع أو العدول عن حدوث ذلك الذي وصل إليه من تأويل فقد جاء التأويل وفقاً لما علَّمه الله له.

السابقالتالي
2