الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ ٱلآخَرُ إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ }

المعية التي دخل فيها اثنان من الفتية معه السجن هي معية ذات، وقِيلَ: إنهما الخبَّاز والساقي، وقيل: إن سبب دخولهما هو رغبة بِطَانة عزيز مصر في التشويش على ما حدث من فضيحة كبرى هي فَضيحة مراودة امرأة العزيز ليوسف ورفض يوسف لذلك. وكان التشويش هو إذاعة خبر مؤامرة على العزيز وأن الساقي والخباز قد تم ضبطهما بمحاولة وضع السُّمِّ للعزيز. وبعد فترة من حياة الاثنين مع يوسف داخل السجن، وبعد معايشة يومية له تكشَّف لهما سلوك يوسف كواحد من المحسنين. وحدث أن رأى كل منهما حُلْماً، فقررا أن يطلبا منه تأويل هذين الحُلْمين، والسجين غالباً ما يكون كثير الوساوس، غير آمن على غَدِه ولذلك اتجها إليه في الأمر الذي يُهِمهم: { قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ ٱلآخَرُ إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [يوسف: 36]. ومن سياق الكلام نعرف أننا أمام حُلْمين فواحد منهما رأى في منامه أنه يعصر خمراً، ورأى الثاني أنه يحمل خُبْزاً فوق رأسه تأكل منه الطير، واتجه كلاهما - أو كُلٌّ منهما على حِدَة - يطلبان - تأويل الرؤيتين المناميتيْنِ، أو أنهما قد طلبا نبأ تَأويل هذا الأمر الذي رأياه. وحيثية لجوئهما إليه هو قولهما: { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [يوسف: 36]. وهذا يدل على أن الإحسان أمر معلوم لكل البشر، حتى أصحاب النفوس المنحرفة، فلا أحد يمكن أن يحكم على آخر أنه محسن إلا إذا وافق عملُه مقاييسَ الإحسان في ذهن مَنْ يصدر هذا الحكم. فكل نفس تعرف السوء، وكل نفس تعرف الإحسان، ولكن الناس ينظرون إلى الإحسان وإلى السوء بذاتية أنفسهم، ولكنهم لو نظروا إلى مجموع حركة المتحركين في الكون، ونظروا إلى أيِّ أمر يتعلق بالغير كما يتعلق بهم لَعرفوا أن الإحسان قَدْر مشترك بين الجميع. ونجد اللص - على سبيل المثال - لا يسيئه أن يسرق أحداً، لكن يسيئه لو أن أحداً قام بسرقته، وهكذا نرى الإحسان وقد انتفض في أعماقه حين يتوجه السوء إليه، ويعرف حينئذ مقام الإحسان، ولكنه حين يمارس السرقة ويكون السوء متوجهاً منه إلى الغير فهو يغفل عن مقام الإحسان. إذن: إنْ أردتَ أن تعرف مقام الإحسان في مقاييس الفضائل والأخلاق فافهم الأمر بالنسبة لك إيجاباً وسَلْباً. والمثال الذي أضربه دائماً هو: قبل أن تَمُدَّ عينيك إلى محارم غيرك، وتعتبر أن هذا ليس سوءً، هنا عليك أن تعرف مقياسه من الحُسْن إن نقلتَ الأمر إلى الصورة العكسية حين تتجه عيون الغير إلى محارمك. هنا ستجد الميزان - ميزانك للأمور - وقد اعتدل.

السابقالتالي
2