الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَـٰذَا بَشَراً إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ }

ولسائل أن يقول: وكيف انتقل لَهُنَّ الكلام عن الذي حدث بينها وبين يوسف؟ لا بُدَّ أن هناك مرحلة بين ما حدث في القصر وكان أبطاله أربعة هم: العزيز، وامرأته، ويوسف، والشاهد، ولا بد أن يكون مَنْ نقل الكلام إلى خارج القصر إنسان له علاقتان علاقة بالقصر فسمع ورأى وأدرك ونقل ما علم إلى مَنْ له به علاقة خارج القصر. وبحث العلماء عن علاقة النسوة اللاتي ثرثرن بالأمر، وقال العلماء: هُنَّ خمسة نساء: امرأة الساقي، وامرأة الخباز، وامرأة الحاجب، وامرأة صاحب الدواب أي: سائس الخيل، وامرأة السجان. وهؤلاء النسوة يَعِشْنَ داخل بيوتهن فمَنِ الذي نقل لَهُنَّ أسرار القصر؟ لا بُدَّ أن أحداً من أزواجهن قد أراد أن يُسلِّي أهله، فنقل خبر امرأة العزيز مع يوسف عليه السلام ثم نقلتْ زوجته الخبر إلى غيرها من النسوة. وحين وصل إلى امرأة العزيز الخبر وكيف يمكرن بها أرسلت إليهن: { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً.. } [يوسف: 31]. والمتكأ هو الشيء الذي يستند إليه الإنسان حتى لا يطول به مَلَلٌ من كيفية جِلْسته، والمقصود بالقول هو أن الجلسة سيطول وقتها، وقد خططتْ لتكشف وَقْعَ رؤية يوسف عليهن، فقدَّمتْ لكل منهن سكيناً وهو ما يوحي بأن هناك طعاماً سوف يؤكل. ويتابع الحق سبحانه: { وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ.. } [يوسف: 31]. ويُقال: أكبرْتَ الشيء، كأنك قد تخيَّلته قبل أن تراه على حقيقته وقد يكون خيالك قد رسم له صورة جميلة، إلا أنك حين ترى الشيء واقعاً تكبر المرائي عن التخيُّل. والمثل أن إنساناً قد يُحدِّثك بخير عن آخر ولكنك حين ترى هذا الآخر تُفاجأ بأنه أفضل مما سمعتَ عنه. والشاعر يقول:
كَادَتْ مُسَاءلةُ الرُّكْبانِ تُخبِرني   عن جَعْفرِ بنِ حبيبٍ أصدقَ القيم
حتَّى التقيْنَا فَلا واللهِ مَا سَمِعتْ   أُذني بأطيبَ مِمَّا قَدْ رأى بَصَرِي
ويقولون في المقابل: سماعك بالمعيدي خير من أن تراه. أي: يا ليتك قد ظللتَ تسمع عنه دون أن تراه لأن رؤيتك له ستُنقِص من قدر ما سمعت. وهُنَّ حين آذيْنَ امرأة العزيز بتداول خبر مُراودتها له عن نفسه، تخيَّلْنَ له صورةً ما من الحُسْن، لكنهُنَّ حين رأَيْنَهُ فاقتْ حقيقته المرئية كل صورة تخيَّلْنَها عنه فحدث لهُنَّ انبهار. وأول مراحل الانبهار هي الذهول الذي يجعل الشيء الذي طرأ عليك يذهلك عما تكون بصدده فإن كان في يدك شيء قد يقع منك. وقد قطعتْ كلٌ منهن يدها بالسكين التي أعطتها لها امرأة العزيز لتقطيع الفاكهة، أو الطعام المُقدَّم لَهُنَّ. وقال الحق سبحانه في ذلك: { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ.. } [يوسف: 31]. وهل هناك تصوير يوضح ما حدث لَهُنَّ من ذهول أدقّ من هذا القول؟ ويتابع سبحانه: { وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَـٰذَا بَشَراً إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } [يوسف: 31].

السابقالتالي
2