الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلْغَافِلِينَ }

حين يتحدث الحق - سبحانه - عن فعل من أفعاله ويأتي بضمير الجمع فسبب ذلك أن كل فعل من أفعاله يتطلب وجودَ صفات متعددة يتطلب: علماً حكمة قدرة إمكانات. ومَنْ غيره - سبحانه - له كل الصفات التي تفعل ما تشاء وقْتَ أن تشاء؟ لا أحد سواه قادر على ذلك لأنه - سبحانه - وحده صاحب الصفات التي تقوم بكل مطلوب في الحياة ومُقدَّر. لكن حين يتكلم - سبحانه - عن الذات فهو يؤكد التوحيد فلا تأتي بصيغة الجمع، يقول تعالى:إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاۤ أَنَاْ فَٱعْبُدْنِي وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ } [طه: 14]. وهنا يتكلم - سبحانه - بأسلوب يعبر عن أفعال لا يَقْدر عليها غيره بالدقة التي شاءها هو - سبحانه - فيقول: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ.. } [يوسف: 3]. وحدد - سبحانه - أنه هو الذي يقصُّ، وإذا وُجِد فعل لله فنحن نأخذ الفعل بذاته وخصوصه ولا نحاول أن نشتق منه اسماً نطلقه على الله إلا إذا كان الفعل له صفة من صفاته التي عَلِمْناها في أسمائه الحسنى لأنه الذات الأقدس. وفي كل ما يتعلق به ذاتاً وصفاتٍ وأفعالاً إنما نلتزم الأدب لأننا لا نعرف شيئاً عن ذات الله إلا ما أخبرنا الله عن نفسه، لذلك لا يصح أن نقول عن الله أنه قصَّاص، بل نأخذ الفعل كما أخبرنا به، ولا نشتق منه اسماً لله لأنه لم يصف نفسه في أسمائه الحسنى بذلك. والواجب أن ما أطلقه - سبحانه - اسماً نأخذه اسماً، وما أطلقه فعلاً نأخذه فعلاً. وهنا يقول - سبحانه: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ.. } [يوسف: 3]. ونعلم أن كلمة " قص " تعني الإتباع، وقال بعض العلماء: إن القصة تُسمَّى كذلك لأن كل كلمة تتبع كلمة، ومأخوذة من قَصَّ الأثر، وهو تتبع أثر السائر على الأرض، حتى يعرف الإنسان مصير مَنْ يتتبعه ولا ينحرف بعيداً عن الاتجاه الذي سار فيه مَنْ يبحث عنه. واقرأ قول الحق - سبحانه -:وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [القصص: 11]. وقُصِّيهِ.. } [القصص: 11]. أي: تتبعي أثره. إذن: فالقَصُّ ليس هو الكلمة التي تتبع كلمة، إنما القَصُّ هو تتبُّع ما حدث بالفعل. ويعطينا الحق سبحانه مثلاً من قصة موسى عليه السلام مع فتاه:قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى ٱلصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ٱلشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ عَجَباً * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَٱرْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصاً } [الكهف: 63-64]. أي: تَابَعا الخطوات. وهكذا نعلم أن القص هو تتبُّع ما حدث بالفعل، فتكون كل كلمة مُصوِّرة لواقع، لا لَبْسَ فيه أو خيال ولا تزيُّد، وليس كما يحدث في القصص الفنيِّ الحديث حيث يضيف القصَّاص لقطاتِ خيالية من أجل الحَبْكة الفنية والإثارة وجَذْب الانتباه.

السابقالتالي
2 3 4