الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَرَاوَدَتْهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ ٱلأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ إِنَّهُ رَبِّيۤ أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ }

وساعة تسمع " راود " فافهم أن الأمر فيه منازعة مثل: " فَاعَل " أو " تَفاعل " ومثل: " شارك محمد علياً " أي: أن علياً شارك محمداً ومحمد شارك علياً فكل منهم مفعول مرة، وفاعل مرة أخرى. والمُرَاودة مطالبةٌ برفق ولين بستر ما تريده مِمَّنْ تريده فإنْ كان الأمر مُسهَّلاً، فالمُراودة تنتهي إلى شيء ما، وإنْ تأبَّى الطرف الثاني بعد أن عرفَ المراد فلن تنتهي المراودة إلى الشيء الذي كنت تصبو إليه. وهكذا راودتْ امرأة العزيز يوسف عليه السلام، أي: طالبته برفق ولين في أسلوب يخدعه لِيُخرِجه عمَّا هو فيه إلى ما تطلبه. ومن قبْل كان يوسف يخدمها، وكانت تنظر إليه كطفل، أما بعد أن بلغ أَشُده فقد اختلف الأمر، ولنفرض أنها طالبته أن يُحضر لها شيئاً وحين يقدمه لها تقول له " لماذا تقف بعيداً؟ " وتَدعوه ليجلس إلى جوارها، وهو لن يستطيع الفكاك لأنه في بيتها وهي مُتمكِّنة منه فهي سيدة القصر. وهكذا نجد أن المسألة مجموعة عليه من عدة جهات فهو قد تربَّى في بيتها وهي التي تتلطف وترقُّ معه، وفَهِم هو مرادها. وهكذا شرح الحق سبحانه المسألة من أولها إلى آخرها بأدب رَاقٍٍ غير مكشوف، فقال تعالى: { وَرَاوَدَتْهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ ٱلأَبْوَابَ.. } [يوسف: 23]. وكلمة: { وَغَلَّقَتِ ٱلأَبْوَابَ.. } [يوسف: 23]. توضح المبالغة في الحدث أو لتكرار الحَدث، فهي قد أغلقت أكثرَ من باب. ونحن حين نحرك المزلاج لنؤكد غَلْق الباب، ونحرك المفتاح، ونديره لتأكيد غَلْق الباب. فهذه عملية أكبر من غَلْق الباب وإذا أضفنا مِزْلاجاً جديداً نكون قد أكثرنا الإغلاق لباب واحد وهكذا يمكن أن نَصِفَ ما فعلنا أننا غلّقنا الباب. وامرأة العزيز قامت بأكثر من إغلاق لأكثر من باب، فَقُصور العظماء بها أكثر من باب، وأنت لا تدخل على العظيم من هؤلاء في بيته لتجده في استقبالك بعد أول باب، بل يجتاز الإنسان أكثر من باب لِيَلقى العظيم الذي جاء ليقابله. ويحمل لنا التاريخ قصة ذلك الرجل الذي رفض أن يبايع معاوية في المدينة، فأمر معاوية باستدعائه إلى قصر الحكم في دمشق. هذا القصر الذي سبق أن زاره عمر بن الخطاب ووجد فيه أبهة زائدة بررها له معاوية بحيلة الأريب أنها أُبهة ضرورية لإبراز مكانة العرب أمام الدولة الرومانية المجاورة، فسكتَ عنها عمر. وحين استدعى معاوية الرجل، دخل بصحبة الحرس من باب، وظن أنه سوف يلقى معاوية فَوْر الدخول لكن الحرس اصطحبه عبر أكثر من باب فلم ينخلع قلب الرجل، بل دخل بثبات على معاوية وضَنَّ عليه بمناداته كأمير المؤمنين، وقال بصوت عال: " السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

السابقالتالي
2 3