الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَآءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ }

كأن قميص يوسف كان معهم. ويُقال: إن يعقوب علَّق على مجيء القميص وعليه الدم الكذب بأن الذئب كان رحيماً، فأكل لحم يوسف ولم يُمزِّق قميصه وكأنه قد عرف أن هناك مؤامرة سيكشفها الله له. ويصف بعض العلماء قصة يوسف بقصة القميص: فهنا جاء إخوته بقميصه وعليه دم كذب. وفي أواسط السورة تأتي مسألة قميص يوسف إن كان قد شُقَّ من دُبُرٍ لحظة أنْ جذبتْه امرأة العزيز لتراوده عن نفسه. وفي آخر السورة يرسل إخوته بقميصه إلى والده فيرتد بصره. ولهذا أخذ العلماء والأدباء كلمة القميص كرمز لبعض الأشياء والمثل هو قول الناس عن الحرب بين علي رضي الله عنه ومعاوية رضي الله عنه أن معاوية أمسك بقميص عثمان بن عفان طلباً للثأر من علي، فقيل " قميص عثمان " رمزاً لإخفاء الهدف عن العيون، وكان هدف معاوية أن يحكم بدلاً من علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين. وهنا يقول الحق سبحانه: { وَجَآءُو عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ.. } [يوسف: 18]. وكأن القميص كان معهم، ووضعوا عليه دماً مكذوباً، لأن الدم لا يكذب، إنما كذب من جاء بدم الشاة ووضعه على القميص. وشاء الحق سبحانه هنا أن يُعطي الوصف المصدري للمبالغة وكأن الدم نفسه هو الذي كذب مثلما تقول " فلان عادل " ويمكنك أن تصف إنساناً بقولك " فلان عَدْل " أي: كأن العدل تجسَّد فيه، أو قد تقول " فلان ذو شرّ " ، فيرد عليك آخر " بل هو الشر بعينه " ، وهذه مبالغة في الحدث. وهل كان يمكن أن يُوصَف الدم بأنه دم صادق؟ نقول: نعم، لو كان الذئب قد أكل يوسف بالفعل وتلوَّث قميص يوسف بدم يوسف وتمزق. ولكن ذلك لم يحدث، بل إن الكذب يكاد يصرخ في تلك الواقعة ويقول " أنا كذب ". فلو كان قد أكله الذئب فعلاً كان الدم قد نشع من داخل القميص لخارجه ولكنهم جاءوا بدم الشاة ولطخوا به القميص من الخارج. وبالله، لو أن الذئب قد أكله فعلاً، ألم تكُنْ أنيابه قد مزَّقَتْ القميص؟ وحين انكشف أمرهم أمام أبيهم أشار أحدهم خُفْية للباقين وقال لهم همساً: قولوا لأبيكم: إن اللصوص قد خرجوا عليه وقتلوه فسمع يعقوب الهمس فقال: اللصوص أحوَجُ لقميصه من دمه وهذا ما تقوله كتب السير. وهذا ما يؤكد فراسة يعقوب، هذه الفراسة التي يتحلى بها أيُّ محقق في قضية قتل حين يُقلِّب أسئلته للمتهم وللشهود لأن المحقق يعلم أن الكاذب لن يستوحي أقواله من واقع بل يستوحي أقواله من خيال مضطرب. ولذلك يقال: " إن كنت كذوباً فكُنْ ذَكُوراً ".

السابقالتالي
2 3