الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ }

وإذا سمعتَ " كأين " افهم أن معناها كثير كثير كثير بما يفوق الحَصْر، ومثل " كأين " كلمة " كم " ، والعَدُّ هو مظنة الحصر، والشيء الذي فوق الحصر تنصرف عن عَدِّه، ولا أحد يحصر رمال الصحراء مثلاً، لكن كلاً منا يعُدُّ النقود التي يردُّها لنا البائع، بعد أن يأخذ ثمن ما اشتريناه. إذن: فالانصراف عن العَدِّ معناه أن الأمر الذي نريد أن نتوجه لِعدِّه فوق الحصر، ولا أحد يعُدُّ النجوم أو يحصيها. ولذلك نجد الحق سبحانه يُنبِّهنا إلى هذه القضية، لإسباغ نعمه على خلقه، ويقول:وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا.. } [إبراهيم: 34]. و " إنْ " هي للأمر المشكوك فيه، وأنتم لن تعدُّوا نعمة الله لأنها فوق الحصر، والمعدود دائماً يكون مُكَرراً، وذَكَر الحق هنا نعمة واحدة، ولم يحددها لأن أيَّ نعمة تستقبلها من الله لو استقصيتها لوجدتَ فيها نِعَماً لا تُحصَر ولا تُعَدُّ. إذن: فكلمة " كأين " تعني " كم " ، وأنت تقول للولد الذي لم يستذكر دروسه: كم نصحتك؟ وأنت لا تقولها إلا بعد أن يفيض بك الكيل. وتأتي " كم " ويُراد بها تضخيم العدد، لا منك أنت المتكلم، ولكن ممَّنْ تُوجِّه إليه الكلام، وكأنك تستأمنه على أنه لن ينطق إلا صِدْقاً، أو كأنك استحضرتَ النصائح، فوجدتها كثيرة جداً. والسؤال عن الكمية إما أنْ يُلْقَى من المتكلم، وإما أن يُطلب من المخاطب وطلبُه من المخاطب دليل على أنه سَيِقُرّ على نفسه، والإقرار سيد الأدلة. وحين يقول سبحانه: { وَكَأَيِّن } [يوسف: 105]. فمعناها أن ما يأتي بعدها كثير. وسبحان القائل:وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسْتَكَانُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّابِرِينَ } [آل عمران: 146]. وهكذا نفهم أن كأين تعني الكثير جداً الذي بلغ من الكثرة مبلغاً يُبرر لنا العذر أمام الغير إنْ لم نُحْصِه. والآيات هي جمع " آية " وهي الشيء العجيب، المُلْفِت للنظر ويُقال: فلان آية في الذكاء. أي: أن ذكاءه مضرب المثل، كأمر عجيب يفوق ذكاء الآخرين. ويُقال: فلان آية في الشجاعة وهكذا. ومعنى الشيء العجيب أنه هو الخارج عن المألوف، ولا يُنسَى. وقد نثر الحق سبحانه في الكون آياتٍ عجيبة، ولكل منثور في الكون حكمة. وتنقسم معنى الآيات إلى ثلاث: الأول: هو الآيات الكونية التي تحدثنا عنها، وهي عجائب وهي حُجَّة للمتأمل أن يؤمن بالله الذي أوجدها وهي تلفِتُك إلى أن مَنْ خلقها لا بُدَّ أن تكون له منتهى الحكمة ومنتهى الدِّقة، وهذه الآيات تلفتنا إلى صدق توحيد الله والعقيدة فيه. وقد نثر الحق سبحانه هذه الآيات في الكون.

السابقالتالي
2 3