الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ ٱلْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي ٱلدُّنُيَا وَٱلآخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ }

ونعلم أن الربوبية تعني الخَلْق من عدم، والإمداد من عدم والإقاتة لاستبقاء الحياة، والتزاوج لاستباق النسل، وتسير كل هذه العمليات في تناسق كبير. فالحق سبحانه أوجد من عدم، واستبقى الحياة الذاتية بالقوت، واستبقى الحياة النوعية بما أباح من تزاوج وتكاثر. وكل مخلوق له حَظٌّ في عطاء الربوبية، مؤمناً كان أم كافراً، وكل مخلوقات الكون مُسخَّرة لكل الخلق، فسبحانه هو الذي استدعى الخَلْق إلى الوجود ولذلك تكفل بما يحقق لهم الحياة. ويختص الحق سبحانه عباده المؤمنين بعطاء آخر بالإضافة لعطاء الربوبية وهو عطاء الألوهية المتمثل في المنهج. يقول يوسف عليه السلام مناجياً ربه: { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ ٱلْمُلْكِ.. } [يوسف: 101]. أي: أنه سبحانه هو الذي أعطاه تلك السيادة، وهذا النفوذ والسلطان فلا أحد يملك قَهْراً عن الله، وحتى الظالم لا يملك قهرّاً عن الله ولذلك يقول الحق سبحانه في آية أخرى من القرآن:قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [آل عمران: 26]. وإتيان المُلْك لا توجد فيه مقاومة ممَّنْ يملك ولكن نَزْع المُلْك هو الذي يقاومه المنزوع منه. والحق سبحانه هو أيضاً الذي يُعِز مَنْ يشاء، وهو الذي يُذل مَنْ يشاء. وحين تتغلغل هذه الآية في نفس المؤمن فهو يُوقِن أنه لا مفرَّ من القدر، وأن إيتاء المُلْك خير، وأن نزع الملك خير، وأن الإعزاز خير والإذلال خير كي لا يطغى الإنسان، ولا يتكبر، ولا يُعدِّل في إيمان غيره. وكان بعض الناس يقولون: لا بد أن تُقدر محذوفاً في الآية. وهم قد قالوا ذلك بدعوى الظن أن هناك خيرين في الآية وشَرَّيْن محذوفين. وأقول: لا، إن ما تظنه أيها الإنسان أنه شر إنما هو خير يريده الله فكل ما يُجريه الله خير. وقول يوسف عليه السلام هنا: { آتَيْتَنِي مِنَ ٱلْمُلْكِ.. } [يوسف: 101]. يقتضي أن نفهم معنى " المُلْك " ومعنى " المِلْك " ، ولنا أن نعرف أن كل إنسان له شيء يملكه مثل ملابسه أو قلمه أو أثاث بيته، ومثل ذلك من أشياء، وهذا ما يُسمَّى: " المِلْك ". أما " المُلْك " فهو أن تملك مَنْ يملك. وقد ملَّك الله بعضاً من خَلْقه لخلقه، ملَّكهم أولاً ما في حوزتهم، وملَّكهم غيرهم، وسبحانه ينزع المُلْك من واحد ويهبه لآخر، كي لا تصبح المسألة رَتَابة ذات. ومثال هذا: هو ما حدث لشاه إيران، وكان له المُلْك، وعنده كل أسباب الحضارة، وفي طَوْعه جيش قوي، ثم شاء الحق سبحانه أن ينزع منه المُلْك، فقام غيره بتفكيك المسامير غير المرئية التي كان الشاه يُثبِّت بها عرشه فزال عنه المُلْك.

السابقالتالي
2 3 4