الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ }

أي: أن من يمر على أهل " مدين " بعد ذلك كأنهم لم يكن لهم وجود. والحق سبحانه يقول:حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا.. } [يونس: 24]. فالإنسان الذي ارتقى حتى وصل إلى الحضارات المتعددة، إلى حد أنه قد يطلب القهوة بالضغط على زر آلة، فإذا شاء الله سبحانه أزال كل ذلك في لمح البصر. هذه الحياة المرفهة يستمتع فيها الإنسان كمخدوم، وهي غير الجنة التي ينال فيها الإنسان ما يشتهي بمجرد أن يخطر الأمر بباله. وهنا يقول الحق سبحانه: { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ.. } [هود: 95]. ومادة " الغنى " منها: الغناء - بكسر الغين - وهو ما يغنيه المطربون، ومنها الغناء - بفتح الغين - وهو يؤدي إلى الشيء الذي يغنيك عن شيء آخر، فالغنى بالمال يكتفي عما في أيدي الناس. وهكذا الغناء لأن الأذن تسمع كثيراً، والعين تقرأ كثيراً، لكن الإنسان لا يردد إلا الكلام الذي يعجبه، والملحَّن بطريقة تعجبه فالغناء هو اللحن المستطاب الذي يغنيك عن غيره. والغَناء، أي: الإقامة في مكان إقامةً تغنيك عن الذهاب إلى مكان آخر، وتتوطن في هذا المكان الذي يغنيك عن بقية الأماكن. إذن: فقول الحق سبحانه: { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ.. } [هود: 95]. أي: كأنهم لم يقيموا هنا، ويستغنوا بهذا المكان عن أي مكان سواه. ويقول الحق سبحانه في موضع آخر من القرآن الكريم:.. مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } [هود: 100]. أي: أن الأطلال قائمة بما تحتويه من أحجار ورسوم، مثل معابد قدماء المصريين، وأنت حين تزورها لا تجد المعابد كلها سليمة، بل تجد عموداً منتصباً، وآخر مُلْقىً على الأرض، وباباً غير سليم، ولو كانت كلها حصيداً لاختفت تماماً، ولكنها بقايا قائمة، ومنها ما اندثر. وهذا يثبت لنا صدق الأداء القرآني بأنه كانت هناك حضارات، لأنها لو ذهبت كلها لما عرفنا أن هناك حضارات قد سبقت. ثم يقول الحق سبحانه: {.. أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } [هود: 95]. وكلمة " ألا " - كما عرفنا من قبل - هي " أداة استفتاح " ليلتفت السامع وينصت، فلا تأخذه غفلة عن الأمر المهم الذي يتكلم به المتكلم، وليستقبل السامع الكلام كله استقبال المستفيد. وكلمة " بُعْداً " ليست دعاءً على أهل مدين بالبعد لأنها هلكت بالفعل، ومادة كلمة " بُعْداً " هي: " الباء " و " العين " و " الدال " وتستعمل استعمالين: مرة تريد منها الفراق والفراق بينونة إلى لقاء مظنون، إما إذا كانت إلى بينونة متيقنة ألا تكون، ولذلك جاء بعدها: {.. كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } [هود: 95].

السابقالتالي
2 3 4 5