الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ }

وهنا أيضاً تبدأ الآية الكريمة بقوله سبحانه: { وَلَئِنْ } وهذا يعني أن اللام قد سبقت لتدل على القسم، وكأنه يقول: لئن أذقنا الإنسان رحمة، ثم نزعناها منه لوقع في اليأس. وهنا أيضاً قسم وشرط، والقسم متقدم، فالجواب يكون للقسم. وكلمة { أَذَقْنَا } توضح أن الإذاقة محلها الأول الفم، ومعناها: تناول الشيء لإدراك طعمه: حلو أو مر، لاذع أوغير لاذع، قلوي أم حامض. ومن العجيب في دقة التكوين الإنساني أن كل منطقة في اللسان لها طعم تنفعل له، فطرف اللسان ينفعل لطعم معين، ووسط اللسان ينفعل لطعم آخر، وجوانب اللسان تنفعل لطعم ثالث، وهكذا. كل ذلك في عضو واحد شاء له الحق سبحانه هذه الدقة في التركيب. وكل " حلمة " من مكوِّنات اللسان لها شيء تحس به ولذلك نجد الإنسان يذوق الطعام، فيقول: إن هذا الطعام ينقصه الملح، أو يذوق الحلوى - مثل الكنافة - فيقول: إن السكر المحلاة به مضبوط. وكذلك حرارة الجسم، يقيس الإنسان حرارته، فإن وجدها سبعة وثلاثين درجة ونصف الدرجة فيقول: إنها حرارة طبيعية. وإن نقصت حرارة الإنسان عن ذلك يقال: إنه مصاب بالهبوط. وإن ارتفعت يقال: مصاب بالحمى. وهذا قياس للحرارة بالجملة لجسم الإنسان، ولها المنافذ الخاصة بها. ولكن كل عضو في الجسم تلزمه درجة حرارة خاصة به ليؤدي عمله. فالكبد إن قلَّت درجة حرارته عن أربعين درجة لا يؤدي مهمته. وجسم الإنسان فيه جوارح متعددة وحرارة العين مثلاً تسع درجات لأنها لو زادت حرارتها عن ذلك لانفجرت العين، وحرارة الأذن ثماني درجات. وأنت لا تستطيع أن تأتي بأشياء مختلفة الحرارة وتضعها مع بعضها، ولكن الحق سبحانه وتعالى شاء ذلك بالنسبة للجسم الإنساني. وهنا يقول الحق سبحانه: { وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ.. } [هود: 9]. والذوق هو للإدراك، لا للأكل، فأنت حين تشتري فاكهة يقول لك البائع: " تفضَّل ذُقْ " فتأخذ واحدة منها لتستطيب طعمها. فالذوق - إذن - هو تناول الشيء لإدراك طعمه. والنعمة حين يشاء الحق سبحانه وتعالى أن تصيب الإنسان، ثم تُنزَع منه، هنا يصاب الإنسان بالقلق أو الحزن أو الهلع، أو اليأس. والنعمة مهما قلَّت فالإنسان يستطيبها، وإن نُزعت منه فهو يئوس كفور. واليأس: هو قطع الأمل من حدوث شيء، ولأن الإنسان لا يملك الفعل، ولو كان يقدر عليه لما يئس. والمؤمن لا ييأس أبداً لأن الله سبحانه هو القائل:.. إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ } [يوسف: 87]. اليأس - إذن - هو أن تقطع الأمل من أمر مراد لك، ولا تملك الوسائل لتحققه. والذي ييأس هو الذي ليس له إله يركن إليه لأن الله تعالى هو الركن الرشيد الشديد، والمؤمن إن فقد شيئاً يقول: " إن الله سيُعوِّضني خيراً منه ".

السابقالتالي
2 3