الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ }

وفي الآية الكريمة السابقة قال الحق سبحانه:وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ.. } [هود: 84]. وهكذا نعلم أن عدم الإنقاص في الكيل والميزان مطلوب، وكذلك توفية المكيال والميزان مطلوبة لأنهما أمر واحد، والحق سبحانه لا يتكلم عن المكيل ولا عن الموزون إلا بإطلاقهما، وهو كل عمل فيه واسطة بين البائع والمشتري. وفي موضع آخر من القرآن الكريم يقول الحق سبحانه:وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } [المطففين: 1-3]. ذلك لأن البائع قد يقول لك: أنت مأمون فزِنْ أنت لنفسك أو كِلْ أنت لنفسك، وقد تخدع البائع فتأخذ أكثر من حقك وقد يفعل البائع عكس ذلك، وفي مثل هذا بؤس للاثنين. وهنا يقول شعيب عليه السلام: { وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ.. } [هود: 85]. والحق سبحانه هنا تكلم عن النقص وعن الإيفاء. ثم يقول سبحانه: { وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ.. } [هود: 85]. وهذا كلام عام لا ينحصر في مكيل أو موزون، فقد يأتي مشترٍ ليبخس من قيمة سلعة ما، أو أن يأخذ رشوة لقضاء مصلحة، أو يخطف ما ليس حقّاً له، أو يغتصب، أو يختلس، وكلها أمور تعني: أخذ غير حق بوسائل متعددة. ونحن نعلم أن الخطف إنما يعني أن يمد إنسان يده إلى ما يملكه آخر ويأخذه ويجري، أما الغصب، فهو أن يمد إنسان يده ليأخذ شيئاً، فيقاومه صاحب الشيء، لكن المغتصب يأخذ الشيء عنوة، أما المختلس فهو المأمون على شيء فاختلسه، والمرتشي هو من أخذ مالاً أو شيئاً مقابل خدمة هي حق لمن يطلبها. إذن: فقول الحق سبحانه وتعالى: { وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ.. } [هود: 85]. تضم أشياء متعددة. والبخس هو أن تضر غيرك ضرراً، بإنقاص حقه، سواء أكان له حجم، أو ميزان، أو كَمٌّ، أو كَيْفٌ. وكلمة " أشياء " مفردها: " شيء " ، ويقولون عن الشيء: " جنس الأجناس " فالثمرة يقال لها: " شيء " ، وكل الثمر يقال له: " شيء ". والحق سبحانه وتعالى يوصينا ألا يغرنا أي شيء مهما كان قليلاً. ونحن نلحظ هنا أن كلمة " الناس " جمع، وكلمة " أشياءهم " جمع أيضاً، وإذا قوبل جمع بجمع اقتضت القسمة آحاداً. أي: لا تبخس الفرد شيئاً، وإنْ قَلَّ. ونجد واحداً من العارفين بالله قد استأجر مطيَّة من خان ليذهب بها من مكان إلى مكان آخر، فلما ركب المطية وقع منه السوط الذي يحركها به، فأوقف الدابة مكانها وعاد ماشياً على قدميه إلى موقع سقوط السوط ليأخذه، ثم رجع ماشياً إلى مكان الدابة ليركبها، فقال له واحد من الناس: لماذا لم ترجع بالدابة إلى موقع السوط لتأخذه وتعود فأجاب العارف بالله: لقد استأجرتها لأصِلَ بها إلى مكان في اتجاه معين، ولم يتضمن اتفاقي مع صاحبها أن أبحث بها عن السوط.

السابقالتالي
2