الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أُوْلَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ ٱلأَشْهَادُ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ }

هذه الآية تبدأ بخبر مؤكد في صيغة استفهام، حتى يأتي الإقرار من هؤلاء الذين افتروا على الله كذباً، والإقرار سيد الأدلة. والواحد من هؤلاء المفترين إذا سمع السؤال وأدار ذهنه في الظالمين، فلن يجد ظلماً أفدح ولا أسوأ من الذي يفتري على الله كذباً، ويقر بذلك. وهكذا شاء الحق سبحانه أن يأتي هذا الخبر في صيغة استفهام، ليأتي الإقرار اعترافاً بهذا الظلم الفظيع. وهؤلاء المكذبون يُعرَضون على الله مصداقاً لقول الحق سبحانه: { أُوْلَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ.. } [هود: 18]. والعرض إظهار الشيء الخفي لنقف على حاله. ومثال ذلك في حياتنا: هو الاستعراض العسكري حتى يبيِّن الجيش قوته أمام الخصوم، وحتى تُبلغ الدولة غيرها من الدول بحجم قوتها. وكذلك نجد الضابط يستعرض فرقته ليقف على حال أفرادها، ويقيس درجة انضباط كل فرد فيها وحسن هندامه، وقدرة الجنود على طاعة الأوامر. ومثال آخر من حياتنا: فنحن نجد مدير المدرسة يستعرض تلاميذها لحظة إعلان نتائج الامتحان، ويرى المدير والتلاميذ خزي المقصر منهم أو الذي لم يؤد واجبه بالتمام. فما بالنا بالعرض على الله تعالى، حين يرى المكذبون حالهم من الخزي؟ ذلك أنهم سيفاجأون بوجود الله الذي أنكروه افتراءً لأن الحق سبحانه يقول:وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ.. } [النور: 39]. فأيُّ خزي - إذن - سيشعرون به؟! ويُظهر الحق سبحانه وتعالى ما كان مخفيّا منهم حين يعرض الكل على الله تعالى مصداقاً لقوله سبحانه:وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفَّاً.. } [الكهف: 48]. وكذلك يُعرضون على النار لأن الحق سبحانه هو القائل:ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً.. } [غافر: 46]. وهكذا يظهر الخزي والخجل والمهانة على هؤلاء الذين افتروا على الله تعالى. وهو سبحانه يعلم كل شيء أزلاً، ولكنه سبحانه شاء بذلك أن يكشف الناس أمام بعضهم البعض، وأمام أنفسهم، حتى إذا ما رأى إنسان في الجنة إنساناً في النار، فلا يستثير هذا المشهد شفقة المؤمن لأنه يعلم أن جزاء المفتري هو النار. ويا ليت الأمر يقتصر على هذا الخزي، بل هناك شهادة الأشهاد لأن الحق سبحانه وتعالى يقول في نفس الآية: { وَيَقُولُ ٱلأَشْهَادُ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ.. } [هود: 18]. والأشهاد جمع له مفرد، هو مرة " شاهد " ، مثل " صاحب " و " أصحاب " ، ومرة يكون المفرد " شهيد " مثل " شريف " و " أشراف ". والأشهاد منهم الملائكة لأن الحق سبحانه يقول:مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق: 18]. وكذلك الحق سبحانه:وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ }

السابقالتالي
2