الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ }

وكان الكافرون قد تكلموا بما أورده الحق سبحانه على ألسنتهم وقالوا:لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ.. } [هود: 12]. فهم - إذن - مشغولون بنعيم الدنيا وزينتها. والحياة تتطلب المقومات الطبيعية للوجود، من ستر عورة، وأكل لقمة وبيت يقي الإنسان ويؤويه. أما الزينة فأمرها مختلف، فبدلاً من أن يرتدي الإنسان ما يستر العورة، يطلب لنفسه الصوف الناعم شتاء، والحرير الأملس صيفاً، وبدلاً من أن يطلب حجرة متواضعة تقيه من البرد أو الحر، يطلب لنفسه قصراً. وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ.. } [آل عمران: 14]. وكل هذه أشياء تدخل في متاع الحياة الدنيا، ويقول الحق سبحانه:.. ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ } [آل عمران: 14]. إذن: ما معنى كلمة " زينة "؟ معنى كلمة " زينة " أنها حُسْنٌ أو تحسين طارىء على الذات، وهناك فرق بين الحسن الذاتي والحسن الطارىء من الغير. والمرأة - على سبيل المثال - حين تتزين فهي تلبس الثياب الجميلة الملفتة، وتتحلّى بالذهب البرَّاق، فهو المعدن الذي يأخذ نفاسته من كثرة تلألئه الذي يخطف الأبصار، ولا تفعل ذلك بمغالاة إلا التي تشك في جمالها. أما المرأة الجميلة بطبيعتها، فهي ترفض أن تتزين ولذلك يسمونها في اللغة: " الغانية " ، أي: التي استغنت بجمالها الطبيعي عن الزينة، ولا تحتاج إلى مداراة كِبرَ أذنيها بقُرْط ضخم، ولا تحتاج إلى مداراة رقبتها بعقد ضخم، ولا تحاول أن تداري معصمها الريان بسوار، وترفض أن تُخفِي جمال أصابعها بالخواتم. وحين تُبالغ المرأة في ذلك التزيُّن فهي تعطي الانطباع المقابل. وقد يكون المثل الذي أضربه الآن بعيداً عن هذا المجال، لكنه يوضح كيف يعطي الشيء المبالَغ فيه المقابل له. وفي ذلك يقول المتنبي:
الطِّيبُ أنت إذَا أصَابكَ طِيبهُ   والماءُ أنتَ إذا اغتسلتَ الغاسلُ
وهو هنا يقول: إن الطيب إذا ما أصاب ذلك الإنسان الموصوف، فالطيب هو الذي يتطيَّب، كما أن الماء هو الذي يُغْسَل إذا ما لمس هذا الإنسان، وكذلك تأبى المرأة الجميلة أن تُزيِّن نَحْرَها بقلادة لأن نحرها بدون قلادة يكون أكثر جمالاً. ويقال عن مثل هذه المرأة " غانية " لأنها استغنتْ بجمالها. ويقال عن جمال نساء الحضر: إنه جمال مصنوع بمساحيق، وكأن تلك المساحيق مثبتة على الوجه بمعجون كمعجون دهانات الحوائط، وكأن كل واحدة تفعل ذلك قد جاءت بسكين من سكاكين المعجون لتملأ الشقوق المجعدة في وجهها. ولحظة أن يسيح هذا المعجون ترتبك، ويختل مشهد وجهها بخليط الألوان ولذلك يقال:
حُسْنُ الحضَارةِ مُجْلُوبٌ بِتَطْريةٍ   وفي البدَاوةِ حُسْنٌ غيرُ مَجْلوبِ

السابقالتالي
2 3