الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلأَمْرُ كُلُّهُ فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }

أي: أن ما جاء من ذكر حكيم هو أمر غائب عنكم، يخبركم به الله - سبحانه - من خلال ما يُنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد شاء الحق - سبحانه - أن يحفظ هذا الذِّكْر الحكيم، ثقة منه - سبحانه - أنه إذا أخبرنا في القرآن بخبر لم يجيء أوانه، فَلْنفهم أنه قد أخبر بما له من أزلية علم بالكون وما يجري فيه، وبما له من قدرة مطلقة تتحكم فيما يؤول إليه أمر المُختار من الكائنات - مؤمنهم وكافرهم - فإذا حدثنا القرآن بشيء مما يغيب عن الإنسان، فلنعلم أنه إخبار بصدق مطلق. وهناك الكثير مما يغيب عن الإنسان، وهناك حجاب بين وسائل إدراك الإنسان وبين بعض المُدْركات، ومرة يكون الحجاب حجابَ زمنٍ، فإذا أخبر الله - تعالى - عن أمر لم نشهده من قديم قد أَوْغَلَ في الزمن، ولم يقرأه النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب ولم يسمعه من معلِّم فهذا كَشْف لحجاب الماضي. ولذلك فبعض سور القرآن الكريم يسميها العلماء " ماكُنات القرآن " مثل قوله الحق:وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [آل عمران: 44]. وغير ذلك من الآيات التي تبدأ بقوله الحق: { مَا كُنْتَ }. وقد كان هناك أناس في ذلك الماضي يدركون ما صار غيباً عن الرسول ومَنْ معه لكن الحق - سبحانه - أظهر هذا الغيب للرسول الذي لم يجلس إلى مُعلِّم بشهادة أعدائه، وكذلك كشف الحق - سبحانه - لرسوله حجاب الزمان وحجاب المكان. ومَنْ ينكشف له حجاب الزمان وحجاب المكان إنما ينكشف له حجاب المستقبل أيضاً، والذي كشف هذا هو الحق - سبحانه - الذي قدَّر مجيء هذا العالم، وما سوف يحدث فيه إلى أن تقوم الساعة. وقد طمر الحق - سبحانه - في القرآن أموراً لو كُشف عنها في زمن بَعْثة الرسول لكان الحديث عنها فوق مستوى العقول والإدراك وتحدث - سبحانه - عن وقائع مستقبلية بالنسبة للمعاصرين لرسول الله صلى عليه وسلم لم يكن أحد يتوقعها. وكانت هناك معركة بين أرقى حضارتين معاصرتين للإسلام حضارة فارس وحضارة الروم، وكانت الحضارتان تتنازعان السيطرة وتوسيع مناطق النفوذ. وهَزَمَتْ فارس - التي لا تؤمن بإله - امبراطورية الروم التي تعتنق المسيحية، ولا تؤمن برسالة محمد الخاتمة. لذلك حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهزيمة الذين يؤمنون بإله في السماء فَيُسرِّي الله - سبحانه - الأمر على رسوله، ويُنزِل الحق - سبحانه - قرآناً يُتلَى على مَرِّ العصور وكل الأزمان يحمل نبوءة انتصار الروم بعد هزيمتهم من الفرس.

السابقالتالي
2 3 4 5 6