الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ }

وهنا نجد الحق سبحانه يأتي بصيغة الاستفهام في قوله تعالى: { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ.. } [هود: 12]. وهو استفهام في معرض النهي. ولله المثل الأعلى - أنت قد تقول لابنك لتحثَّه على الاجتهاد: " لعلَّك سُررت من فشل فلان " وفَحْوَى هذا الخطاب، استفهام في معرض النهي، وهو استفهام يحمل الرجاء. وهنا تجد أن الراجي هو ربك - سبحانه وتعالى - الذي أرسلك بالدعوة. ولذلك يأتي قول الحق سبحانه مُبيِّناً: لا يضيق صدرك يا رسول الله من هؤلاء المتعنتين، الذين يريدون أن يخرجوك عن مقامك الذي تلحُّ دائماً في التأكيد عليه، فأنت تؤكد لهم دائماً أنك بشرٌ، وكان المفروض فيهم أن تكون مطلوباتهم منك على مقدار ما أقررت على نفسك، فأنت لم تَقُلْ أبداً عن نفسك إنك إله، ليطلبوا منك آيات تُخالف النواميس، بل أنت مُبلِّغ عن الله تعالى. وإياك أن يضيق صدرك فلا تُبلغهم شيئاً مما أنزِلَ إليك لأن البلاغَ هو الحُجَّة عليهم، فلو ضاق صدرُك منهم، وأنقصتَ البلاغ الموكَّل إليك لأنهم كلما أبلغوا بآية كذَّبوها، فاعلمْ أن الله سبحانه وتعالى سوف يزيد عقابهم بقدر ما كذَّبوا. وكلمة " ضائق " اسم فاعل، ويعني أن الموصوف به لن يظل محتفظاً بهذه الصفة لتكون لازمة له، ولكنها تعبِّر عن مرحلة من المراحل، مثلما نقول: " فلان نَاجِر " أي: أنه قادر على القيام بأعمال النجارة مرَّة واحدة - أو قليلاً - ولا يحترف هذا العمل. وكذلك كلمة " ضائق " وهي تعبِّر في مرحلة لا أكثر مِنْ فَرْط ما قابلوا الرسول صلى الله عليه وسلم من إنكار، وما طالبوا به من أشياء تخرج عن نطاق إنسانيته، فقد طالبوا هنا أن ينزل عليه كَنْزٌ. وقد جاء الحق سبحانه بذكر مسألة الكنز ليدلنا على مدى ما عندهم من قيم الحياة، فقيمة القيم عندهم تركزَّتْ في المال ولذلك تمنَّوا لو أن هذا القرآن قد نزل على واحد من الأثرياء، مصداقاً لقول الحق سبحانه:وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31]. إذن: فلم يكن اعتراضهم على القرآن، بل على مَنْ نزل عليه القرآن. وفي الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها، طلبوا أن ينزل إليه كَنْزٌ، وقد ظنوا أن الثراء سيلهيه هو ومَنْ معه عن الدعوة إلى الله تعالى ونسوا أنهم قد عرضوا الثروة عليه من قبل. وهكذا وضح لمن عرض عليه هذا الأمر أن مسألة الكنز لا تشغله صلى الله عليه وسلم. والكَنْزُ - لغويّاً - هو الشيء المجتمع، فإن كانت الماشية - مثلاً - مليئة باللحم يقال لها: " مُكْتَنِزَةٌ لحماً " ولكن كلمة " الكنز " أطلقت على الشيء الذي هو ثمن لأي شيءٍ، وهو الذهب.

السابقالتالي
2 3