الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ }

أي: أن الحق - سبحانه - قد خَلَقَ الخَلْق للرحمة والاختلاف. وساعة نرى " اسم إشارة " أو " ضميراً " عائداً على كلام متقدِّم، فنحن ننظر ماذا تقدم. والمتقدم هنا:وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ.. } [هود: 118-119]. والحق - سبحانه وتعالى - حين تكلم عن خلق الإنسان قال:وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56]. ومعنى العبادة هو طاعة الله - سبحانه - في " افعل " و " لا تفعل " وهذا هو المراد الشرعي من العبادة ولكن المرادات الاجتماعية تحكَّمتْ فيها خاصية الاختيار، فحدث الاختلاف، ونشأ هذا الاختلاف عن تعدُّد الأهواء. فلو أن هَوَانَا كان واحداً لما اختلفنا، ولكنّا نختلف نتيجة لاختلاف الأهواء، فهذا هواه يميني وذاك هواه يساري وثالث هواه شيوعيٌّ ورابع هواه رأسماليّ وخامس هواه وجوديّ، وكل واحد له هوى. ولذلك قال الحق - سبحانه:وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ.. } [المؤمنون: 71]. ولم يكن العالم ليستقيم لو اتبع الله - سبحانه - أهواء البشر المختلفة، ولكن أحوال هذا العالم يمكن أن تستقيم إذا صدرتْ حركته الاختيارية عن هوًى واحد ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به ". وفي حياتنا اليومية نلاحظ أن الأعمال التي تسير بها حركة الحياة وبدون أن ينزل تكليف فيها نجد فيها اختلافاً لا محالة لأن الحق سبحانه وتعالى لو شاء لخلقنا كلنا عباقرة في كل مناحي الحياة أو يخلقنا كلنا شعراء أو أطباء أو فلاسفة. ولو شاء - سبحانه - ذلك فمن سيقوم بالأعمال الأخرى؟ فلو أننا كنا كلنا أطباء فمن يقوم بأعمال الزراعة وغيرها؟ ولو كنا جميعاً مهندسين فمن يقوم بأعمال التجارة وغيرها؟ وقد شاء الحق - سبحانه - أن يجعل مواهبنا مختلفة ليرتبط العالم ببعضه ارتباط تكاملٍ وضرورة لا ارتباط تفضُّل. ولذلك يقول الحق - سبحانه:أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً.. } [الزخرف: 32]. وهكذا نعرف أن رفع الدرجات لا يعني تلك النظرة الحمقاء الرعناء، والتي تدعي أن في ذلك التقسيم رفعة للغنى وتقليلاً لشأن الفقير لأن الواقع يؤكد أن كل إنسان هو مرفوع في جهة بسبب ما يُحسنه فيها ومرفوع عليه في جهة أخرى بسبب ما لا يُحسنه ويُحسنه غيره، وغيره مكمل له. وهكذا يتبادل البشر ما يحققه اختلاف مواهبهم، واختلاف المواهب هي مقومات التلاحم. ولذلك قلنا: إن مجموع سمات ومواهب كل إنسان إنما يتساوى مع مجموع سمات ومواهب كل إنسان آخر، ولا تفاضل إلا بالتقوى وقيمة كل امرىء ما يُحسنه.

السابقالتالي
2 3