الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ }

ونحن نعلم أن الإنسان قد طرأ على هذا الكون بعد أن خلق الله - سبحانه - في هذا الكون كل مقومات الحياة المسخرة بأمر الله لهذا الإنسان ليمارس مهمة الخلافة في الأرض ولم تتأبَّ تلك الكائنات على خدمة الإنسان، سواء أكان مؤمناً أم كافراً لأن الحق - سبحانه - هو الذي استدعى الإنسان إلى الوجود، وما دام قد استدعاه فهو - سبحانه - لن يضن عليه بمقومات هذا الوجود من بقاء حياة، وبقاء نوع. وهذا هو عطاء الربوبية الذي كفله الله - سبحانه - لكل البشر: مؤمنهم وكافرهم، وهو عطاء يختلف عن عطاء الألوهية المتمثل في المنهج الإيماني: " افعل " و " لا تفعل ". ومن يأخذ عطاء الألوهية مع عطاء الربوبية فهو من سعداء الدنيا والآخرة. إذن: فقدرة الله - سبحانه - قد أرغمت الكون - دون الإنسان - أن يؤدي مهمته، وكان من الممكن أن يجعل البشر أمة واحدة مهتدية لا تخرج عن نظام أراده الله - سبحانه وتعالى - كما لم تخرج الشمس أو القمر أو الهواء أو أي من الكائنات الأخرى المسخَّرة عن إرادته. لأن الحق - تبارك وتعالى - أثبت لنفسه طلاقة القدرة في تسخير أجناس لمراده بحيث لا تخرج عنه، وذلك يثبت لله - سبحانه - القدرة ولا يثبت له المحبوبية. أما الذي يثبت له المحبوبية فهو أن يخلق خَلْقاً ويعطيهم في تكوينهم اختياراً. ويجعل هذا الاختيار كلَّ واحدٍ فيهم صالحاً أن يطيع، وصالحاً أن يعصي، فلا يذهب إلى الإيمان والطاعة إلا لمحبوبية الله - تعالى. وهكذا نعلم أن الكون المسخَّر المقهور قد كشف لنا سَيَّال القدرة، والجنس الذي وهبه الله الاختيار إن أطاع فهو يكشف لنا سيال المحبوبية. والحق - سبحانه - هو القائل:فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ.. } [الكهف: 29]. ولكن أيُترك الإنسان حتى يأتي له الغرور في أنه يملك الاختيار دائماً؟ لا.. فمع كونك مختاراً إياك أن تغتر بهذا الاختيار لأن في طيِّك قهراً، وما دام في طيك قهر فعليك أن تتأدب ولا تتوهَّم أنك مختار في أن تؤمن بالله أو لا تؤمن ولا تتوهم أنك مُنفلت من قبضة الله - تعالى - فهو يملك زمامك في القهريات التي تحفظ لك حياتك مثل: الحيوان والنبات والجماد، ولكنه - سبحانه - ميَّزك بالعقل. وخطأ الإنسان دائماً أنه قد يعطي الأسماء معاني ضد مسمياتها، فكلمة " العقل " مأخوذة من " عقل " وتعني: " ربط " فلا تجمح بعقلك في غير المطلوب منه لأن مهمة العقل أن يكبح جماحك. وتذكر دائماً: في قبضة من أنت وفي زمام من أنت وفي أي الأمور أنت مقهور؟ وما دُمْتَ مقهوراً في أشياء فاختر أن تكون مقهوراً لمنهج الله سبحانه واحفظ أدبك مع الله، واعلم أنه قد وهبك كل وجودك سواء ما أنت مختار فيه أو مقهور عليه.

السابقالتالي
2 3