الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ }

وكلمة { صَبَرُواْ } هنا موافقة للأمرين الذين سبقا في الآيتين السابقتين، فهناك نزع الرحمة، وكذلك هناك " نعماء " من بعد " ضرَّاء " ، وكلا الموقفين يحتاج للصبر لأن كلاّ منا مقدور للأحداث التي تمر به، وعليه أن يصبر لملحظية حكمة القادر سبحانه. وبدأ الحق سبحانه وتعالى هذه الآية بالاستثناء، فقال جل وعلا: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ.. } [هود: 11]. ولولا هذا الاستثناء لكان الكل - كل البشر - ينطبق عليهم الحكم الصادر في الآيتين السابقتين، حكم باليأس والكفر، أو الفرح والفخر دون تذكُّر واهب النعم سبحانه. ولكن هذا الاستثناء قد جاء ليُطمئن الذين صبروا على ما قد يصيبهم في أمر الدعوة، أو ما يصيبهم في ذواتهم لا من الكافرين لكن بتقدير العزيز العليم. أو أنهم صبروا عن عمل إخوانهم المؤمنين. إذن: فالصبر معناه حدُّ النفس بحيث ترضى عن أمر مكروه نزل بها. والأمر المكروه له مصادر عدة، منها: * أمر لا غريم لك فيه كالمرض مثلاً. * أو أن يكون لك غريم في الأمر كأن يُسرق منك متاع، أو يُعتدى عليك، وفي هذه الحالة تنشغل برغبة الانتقام، وتتأجج نفسك برغبة النيل من هذا الغريم، أكثر مما تتأجج في حالة عدم وجود الغريم، فحين يمرض الإنسان فلا غريم له. وفي حالة الرغبة من الانتقام فالصبر يختلف عن الصبر في حالة وجود الغريم. ولذلك عرض الحق سبحانه وتعالى لتأتِّي الصبر حسب هذه المراحل، فسيدنا لقمان يقول لابنه:.. وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [لقمان: 17]. وفي موضع آخر يقول الحق سبحانه:وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [الشورى: 43]. وفي هذه الآية " لام " التوكيد لتؤكد أن هذا الأمر يحتاج إلى عزم قوي لأن لي فيها غريماً يثير غضبي. فساعة أرى من ضربني أو أهانني أو سرقني أو أساء إليَّ إساءة بالغة، فالأمر هنا يحتاج صبراً وقوة وعزيمة. أما في الحالة الأولى - حالة عدم وجود غريم - فالحق سبحانه يكتفي فقط بالقول الكريم:وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ.. } [لقمان: 17]. ولكنه سبحانه أضاف في الآية الأخرى " اللام " لتأكيد العزم، وليضيف سبحانه في حالة وجود غريم طلب الغفران، فيقول سبحانه:وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [الشورى: 43]. وهكذا نجد المستثنى، وهم الصابرون على ألوانهم المختلفة. وهنا يقول سبحانه: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ.. } [هود: 11]. وما دام هنا صبر، فالصبر لا يكون إلا على إيذاء. ولكن إياك أن يكون الإيذاء من خصمك في الإيمان، أو من خصمك في ما دون الإيمان، صارفاً لك عن نشاطك في طاعة الله سبحانه لأن الصبر لا يعني أن تكبت غضبك وتعذب نفسك بهذا الكبت بما يصرفك عن مهامك في الحياة، بل يسمح لك الحق سبحانه أن تتخلص من غلِّك وحقدك، بمعايشة الإيمان الذي يُخفف من غَلْواء الغضب.

السابقالتالي
2 3